بعد حصار دام شهرًا ، استسلمت البندقية ، التي أعلنت استقلالها باسم جمهورية سان ماركو ، للنمسا.
تُعد مدينة البندقية، المعروفة في الإيطالية باسم "فينيتسيا" (Venezia) وتُنطق [veˈnɛttsja]، وفي لهجتها المحلية باسم "فينيسيا" أو "فينيكسيا" (Venesia أو Venexia)، إحدى الجواهر الفريدة التي تقع في شمال شرق إيطاليا، وهي عاصمة منطقة فينيتو الساحرة. تُعرف هذه المدينة الاستثنائية بكونها تُشيَّد على مجموعة مذهلة من 118 جزيرة صغيرة، تتخللها شبكة معقدة من القنوات المائية التي تُعد شرايين الحياة فيها، وتربطها ببعضها البعض أكثر من 400 جسر، كلٌ منها يحكي قصة وتاريخًا عريقًا. تقع هذه الجزر ضمن بحيرة البندقية الضحلة، وهي خليج مغلق يتشكل بين مصبي نهري بو وبياف العظيمين، وبشكل أدق، بين نهري برينتا وشيل.
في عام 2020، بلغ عدد سكان بلدية البندقية (Comune di Venezia) حوالي 258,685 نسمة. ومن هذا العدد، يقطن نحو 55,000 شخص في قلب المدينة التاريخية (centro storico)، تلك المنطقة التي حافظت على طابعها الأصيل وتراثها الغني عبر العصور. وتُشكل البندقية جزءًا لا يتجزأ من المنطقة الحضرية "بادوفا تريفيزو فينيسيا" (PaTreVe) إلى جانب مدينتي بادوفا وتريفيزو، وهي منطقة حضرية إحصائية يبلغ عدد سكانها الإجمالي حوالي 2.6 مليون نسمة، مما يعكس الأهمية الاقتصادية والثقافية لهذه المنطقة مجتمعة.
تاريخ عريق وجذور عميقة
يُعزى اسم البندقية إلى سكان "فنيتي" القدامى الذين استوطنوا هذه المنطقة منذ القرن العاشر قبل الميلاد، تاركين بصمتهم الأولى على هذه الأرض. تاريخيًا، لمعت البندقية كعاصمة لجمهورية البندقية لأكثر من ألف عام، تحديدًا من عام 697 وحتى عام 1797. خلال هذه الحقبة الطويلة، أصبحت الجمهورية قوة مالية وبحرية عظمى لا يُستهان بها، خاصةً في العصور الوسطى وعصر النهضة.
كانت البندقية مركزًا استراتيجيًا لانطلاق الحروب الصليبية، وشهدت مياهها صدى معركة ليبانتو الشهيرة. لم تكن مجرد قوة عسكرية، بل كانت أيضًا محورًا تجاريًا عالميًا حيويًا، حيث ازدهرت فيها تجارة الحرير، والحبوب، والتوابل، والفنون من القرن الثالث عشر وحتى نهاية القرن السابع عشر. يُنظر إلى البندقية على أنها أول مركز مالي دولي حقيقي في العالم، وقد ظهر هذا الدور في القرن التاسع وبلغ ذروته في القرن الرابع عشر، مما جعلها مدينة غنية ومزدهرة على مدى معظم فترات تاريخها.
بعد الحروب النابليونية ومؤتمر فيينا، تم ضم الجمهورية إلى الإمبراطورية النمساوية. وفي عام 1866، أصبحت البندقية جزءًا من مملكة إيطاليا الموحدة، وذلك بعد استفتاء شعبي أُجري في أعقاب حرب الاستقلال الإيطالية الثالثة.
ألقاب البندقية وشهرتها العالمية
تُعرف البندقية بجمالها الآسر وتاريخها الغني بأسماء وألقاب عديدة تعكس جوهرها الفريد، منها "المهيمنة" (La Dominante)، و"الساحرة الهادئة" (La Serenissima) – وهو لقب يعكس استقرار جمهوريتها وهدوءها النسبي آنذاك – بالإضافة إلى "ملكة الأدرياتيكي"، و"مدينة الماء"، و"مدينة الأقنعة" (في إشارة إلى كرنفالها الشهير)، و"مدينة الجسور"، و"المدينة العائمة"، و"مدينة القنوات". هذه الألقاب لا تزال تتردد صداها حتى اليوم، لتصف جمالها الأخاذ.
اعترافًا بقيمتها الاستثنائية، أُدرجت البحيرة وجزء من المدينة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، مما يؤكد على أهمية الحفاظ على هذا الإرث الحضاري والطبيعي للأجيال القادمة. تُشتهر البندقية بجمال معالمها المعمارية وأعمالها الفنية التي لا تُضاهى، بدءًا من ساحة القديس مرقس المهيبة وقصر الدوج التاريخي إلى جسر ريالتو الشهير الذي يقطعه آلاف الزوار يوميًا.
كانت البندقية مهدًا للعديد من الحركات الفنية المهمة، خاصةً خلال عصر النهضة، حيث برز فنانون عمالقة أمثال تيتيان وتينتوريتو وفيرونيزي. كما لعبت دورًا محوريًا في تاريخ الموسيقى الآلية والأوبرالية، وهي مسقط رأس الملحنين الباروكيين البارزين توماسو ألبينوني وأنطونيو فيفالدي، الذي تُعرف أعماله عالميًا.
تحديات حديثة وجمال لا يزول
على الرغم من تاريخها العريق وجمالها الساحر، تواجه البندقية اليوم تحديات كبيرة. تشمل هذه التحديات الأعداد الهائلة من السياح التي تفوق قدرة المدينة على الاستيعاب، بالإضافة إلى المشكلات البيئية الناجمة عن التلوث، وظاهرة "أكوا ألتا" (Acqua Alta) وهي فيضانات المد والجزر التي تهدد مبانيها التاريخية، وسفن الرحلات البحرية العملاقة التي تُبحر بالقرب من أحيائها القديمة. لمواجهة هذه التحديات، تم تنفيذ مشاريع طموحة مثل مشروع "موزي" (MOSE) الذي يهدف إلى حماية المدينة من الفيضانات.
ومع كل هذه التحديات، تظل البندقية وجهة سياحية تحظى بشعبية جارفة ومركزًا ثقافيًا رئيسيًا. لقد صنفتها العديد من الجهات مرارًا وتكرارًا كواحدة من أجمل المدن في العالم. وصفتها صحيفة التايمز أون لاين بأنها "واحدة من أكثر المدن رومانسية في أوروبا"، بينما اعتبرتها صحيفة نيويورك تايمز "بلا شك أجمل مدينة بناها الإنسان". إنها مدينة تأسر القلوب بجمالها الذي يمزج بين الماء والفن والتاريخ، وتقدم لزوارها تجربة لا تُنسى.
الأسئلة المتكررة (FAQs)
- كيف تم بناء البندقية على الماء؟
- تم بناء البندقية بعبقرية هندسية فريدة؛ حيث غرس البندقيون الأوائل ملايين الأعمدة الخشبية تحت الماء في الطين والرمل لتوفير أساسات صلبة. تُشكل هذه الأعمدة دعائم للمباني، ومع مرور الوقت، تتحجر هذه الأخشاب بسبب نقص الأكسجين في الماء، مما يزيد من متانتها وقدرتها على تحمل الأوزان الهائلة للمباني التاريخية التي نراها اليوم.
- ما هو أفضل وقت لزيارة البندقية؟
- يعتبر فصلا الربيع (من أبريل إلى يونيو) والخريف (من سبتمبر إلى أكتوبر) أفضل الأوقات لزيارة البندقية. خلال هذه الفترات، يكون الطقس معتدلاً وممتعًا، وتقل أعداد الحشود مقارنةً بفصل الصيف، مما يتيح للزوار الاستمتاع بجمال المدينة ومعالمها بهدوء أكبر.
- ما هي أهم المعالم السياحية في البندقية؟
- من أبرز المعالم السياحية التي يجب زيارتها: ساحة القديس مرقس (Piazza San Marco) بما فيها كاتدرائية القديس مرقس وبرج الجرس وقصر الدوج (Doge's Palace)، وجسر ريالتو (Rialto Bridge)، وجسر التنهدات (Bridge of Sighs)، وقناة غرانده (Grand Canal) التي يمكن استكشافها على متن الجندول، بالإضافة إلى زيارة جزر مورانو وبورانو القريبتين المشهورتين بالزجاج الملون والمنازل الملونة.
- ما هي ظاهرة "أكوا ألتا" وماذا تفعل البندقية حيالها؟
- تُشير "أكوا ألتا" (Acqua Alta) إلى ظاهرة الفيضانات الموسمية التي تتعرض لها البندقية، وخاصةً خلال فصلي الخريف والشتاء، وتحدث نتيجة لارتفاع المد بشكل غير عادي. لمواجهة هذه الظاهرة، نفذت إيطاليا مشروع "موزي" (MOSE)، وهو نظام من الحواجز المتحركة التي ترفع من قاع البحر لإغلاق مداخل البحيرة وحماية المدينة من ارتفاع منسوب المياه.
- ما هو كرنفال البندقية؟
- كرنفال البندقية هو أحد أقدم وأشهر الكرنفالات في العالم، ويشتهر بالأقنعة المزخرفة والأزياء الفاخرة التي يرتديها المشاركون. يُقام عادةً في الفترة التي تسبق الصوم الكبير (الصيام المسيحي)، وهو احتفال يمتد لأيام طويلة يجمع بين الفن والتاريخ والمسرح والاحتفالات الشعبية، ويجذب ملايين الزوار من حول العالم.
- ما هي الجندول؟
- الجندول هي قوارب البندقية التقليدية الشهيرة ذات القاع المسطح، والتي تُستخدم كوسيلة نقل أساسية ورومانسية في قنوات المدينة الضيقة. تُقاد الجندول بواسطة "الجندوليير" الذي يستخدم مجذافًا واحدًا لدفع القارب، وتُعد تجربة ركوب الجندول من التجارب السياحية الأكثر تميزًا في البندقية.
- لماذا تُعرف البندقية بـ "الساحرة الهادئة" (La Serenissima)؟
- اكتسبت البندقية لقب "الساحرة الهادئة" خلال فترة جمهورية البندقية الطويلة، والتي استمرت لأكثر من ألف عام. كان هذا اللقب يعكس استقرارها السياسي، واستقلالها، وقوتها البحرية والدبلوماسية التي منحتها فترة طويلة من السلام والازدهار النسبي مقارنةً بالاضطرابات التي كانت سائدة في أوروبا آنذاك.