الحروب الثورية الفرنسية: فرنسا تعلن الحرب على المملكة المتحدة وهولندا.

في أواخر القرن الثامن عشر، ومع احتدام نيران الثورة الفرنسية التي غيرت وجه فرنسا من ملكية إلى جمهورية، شهدت القارة الأوروبية صراعاً عسكرياً هائلاً عُرف بـالحروب الثورية الفرنسية (بالفرنسية: Guerres de la Révolution française). امتدت هذه الحروب لعقد كامل، من عام 1792 حتى عام 1802، وشكلت نقطة تحول حاسمة في التاريخ الأوروبي. كانت هذه الصراعات نتيجة مباشرة للثورة الفرنسية التي أثارت قلق الممالك الأوروبية المجاورة وخوفها من انتشار مبادئها الثورية.

وضعت هذه الحروب فرنسا الثورية في مواجهة تحالفات قوية ضمت قوى أوروبية عظمى مثل بريطانيا العظمى، والنمسا، وبروسيا، وروسيا، بالإضافة إلى العديد من الممالك والإمارات الأخرى التي رأت في الثورة الفرنسية تهديداً وجودياً لأنظمتها الملكية. عادة ما تُقسم هذه الحروب إلى فترتين رئيسيتين: حرب التحالف الأول التي استمرت من عام 1792 إلى عام 1797، وحرب التحالف الثاني التي جرت أحداثها بين عامي 1798 و1802. وفي حين بدأ القتال محصوراً ضمن حدود أوروبا، إلا أنه سرعان ما اتخذ بعداً عالمياً، وامتدت آثاره وتداعياته إلى ما هو أبعد من القارة العجوز.

بعد عقد من المواجهات العسكرية المستمرة والدبلوماسية العدوانية، تمكنت فرنسا من تحقيق مكاسب إقليمية كبيرة، حيث احتلت مناطق استراتيجية في شبه الجزيرة الإيطالية، والبلدان المنخفضة (مثل بلجيكا وهولندا اليوم)، ومنطقة الراينلاند في أوروبا. وعلى الرغم من هذه الانتصارات، اضطرت فرنسا إلى التخلي عن إقليم لويزيانا الشاسع في أمريكا الشمالية، في خطوة ستكون لها تداعيات جيوسياسية بعيدة المدى. الأهم من ذلك، أن النجاح الفرنسي في هذه الصراعات ضمن انتشار المبادئ الثورية مثل الحرية والمساواة والأخوة في معظم أنحاء أوروبا، ممهداً الطريق لتغيرات اجتماعية وسياسية كبرى.

تأجيج الصراع وبدايات الحرب

منذ عام 1791، نظرت الممالك الأوروبية الأخرى إلى الثورة الفرنسية واضطراباتها المتزايدة بعين الريبة والغضب. كانت هذه الدول تدرس خياراتها، فمن ناحية، كان هناك دافع لدعم الملك لويس السادس عشر وعائلته، ومن ناحية أخرى، كان هناك خوف عميق من انتشار الأفكار الثورية التي قد تقوض استقرار عروشهم. كما أن البعض رأى في الفوضى التي عمت فرنسا فرصة للاستفادة منها أو توسيع نفوذه.

تجسد هذا القلق الأوروبي في حشد النمسا لقوات كبيرة على حدودها الفرنسية. وفي خطوة تصعيدية، أصدرت النمسا بالتعاون مع بروسيا إعلان بيلنيتز، الذي هدد بعواقب وخيمة في حال تعرض الملك لويس السادس عشر والملكة ماري أنطوانيت لأي أذى. رفضت النمسا سحب قواتها من الحدود الفرنسية أو التراجع عن هذا التهديد الواضح باستخدام القوة، مما دفع فرنسا، في ربيع عام 1792، إلى إعلان الحرب على النمسا وبروسيا. رد البلدان بغزو منسق للأراضي الفرنسية، لكن جيوشهما سرعان ما أُجبرت على التراجع في معركة فالمي الحاسمة في سبتمبر من العام نفسه، وهو انتصار فرنسي ذو أهمية رمزية كبيرة. وقد شجع هذا الانتصار المؤتمر الوطني الفرنسي على إلغاء النظام الملكي وإعلان الجمهورية.

توالت بعد ذلك سلسلة من الانتصارات للجيوش الفرنسية الجمهورية الجديدة، مما عزز الروح المعنوية الثورية. إلا أن هذه الانتصارات توقفت فجأة بهزيمة قاسية في معركة نيرويندن في ربيع عام 1793. عانى الفرنسيون من هزائم إضافية خلال الفترة المتبقية من ذلك العام، وسمحت هذه الأوقات العصيبة لجناح اليعاقبة المتشدد بالصعود إلى السلطة وفرض ما عُرف بـعهد الإرهاب، وهي فترة تميزت بالقمع السياسي الشديد والإعدامات الجماعية، بهدف توحيد الأمة الفرنسية وحماية الثورة من أعدائها الداخليين والخارجيين.

تحولات ميدانية وصعود نابليون

شهد عام 1794 تحسناً ملحوظاً في الوضع العسكري بالنسبة للفرنسيين، حيث حققت انتصارات ضخمة مثل معركة فلوروس ضد النمساويين ومعركة الجبل الأسود ضد الإسبان، مما أشار إلى بداية مرحلة جديدة وأكثر إيجابية في سير الحروب. بحلول عام 1795، تمكن الفرنسيون من السيطرة على هولندا النمساوية والجمهورية الهولندية التي تحولت إلى "الجمهورية الباتافية" الموالية لفرنسا. كما نجحت الدبلوماسية الفرنسية في إخراج إسبانيا وبروسيا من الحرب من خلال توقيع معاهدة بازل.

في أبريل 1796، بدأ جنرال شاب مغمور، لم يكن معروفاً على نطاق واسع حتى ذلك الحين، يُدعى نابليون بونابرت، حملته الأولى في إيطاليا. وفي غضون أقل من عام، قاد نابليون جيوشه الفرنسية إلى تحقيق انتصارات ساحقة، ودمر قوات هابسبورغ النمساوية، وطردها من شبه الجزيرة الإيطالية. كاد نابليون أن يكسب كل معركة خاضها، وأسر ما يقرب من 150 ألف جندي. ومع تقدم القوات الفرنسية بقيادة نابليون نحو فيينا، اضطر النمساويون إلى طلب السلام، ووافقوا على معاهدة كامبو فورميو، التي أنهت فعلياً التحالف الأول ضد الجمهورية الفرنسية.

التحالف الثاني ومغامرة مصر

لم يدم السلام طويلاً، فسرعان ما بدأت حرب التحالف الثاني في عام 1798 بغزو فرنسي مثير للجدل لمصر بقيادة نابليون بونابرت. رأت القوى المتحالفة، وفي مقدمتها بريطانيا والنمسا وروسيا والدولة العثمانية، في هذا الانشغال الفرنسي في الشرق الأوسط فرصة سانحة لاستعادة الأراضي التي خسرتها في حرب التحالف الأول.

في أوروبا، بدأت الحرب بشكل جيد للحلفاء، حيث نجحوا تدريجياً في طرد الفرنسيين من إيطاليا واحتلال أجزاء من سويسرا، محققين انتصارات مهمة في معارك ماجنانو، وكاسانو، ونوفي. ومع ذلك، انهارت جهودهم إلى حد كبير مع الانتصار الفرنسي الحاسم في زيورخ في سبتمبر 1799، مما أدى إلى انسحاب روسيا من الحرب بشكل كامل. وفي غضون ذلك، كانت قوات نابليون في مصر قد قضت على سلسلة من الجيوش المصرية والعثمانية في معارك الأهرامات، وجبل طابور، وأبو قير البرية. عززت هذه الانتصارات في مصر من شعبية نابليون الهائلة في فرنسا، وعاد منتصراً في خريف عام 1799، على الرغم من أن الحملة المصرية انتهت في نهاية المطاف بالفشل العسكري، خاصة بعد تدمير الأسطول الفرنسي في معركة النيل البحرية عام 1798 على يد البحرية الملكية البريطانية بقيادة الأدميرال نيلسون، مما عزز بشكل كبير السيطرة البريطانية على البحر الأبيض المتوسط وأضعف البحرية الفرنسية.

نهاية الحروب الثورية وبداية عهد نابليون

كان وصول نابليون المفاجئ من مصر إيذاناً بسقوط حكومة الإدارة الفرنسية (الدليل) في انقلاب 18 برومير (9 نوفمبر 1799)، حيث نصب نابليون نفسه قنصلاً أول لفرنسا، مؤسساً بذلك نظام القنصلية. أعاد نابليون تنظيم الجيش الفرنسي المنهك، وشن هجوماً جديداً واسع النطاق على النمساويين في إيطاليا خلال ربيع عام 1800. حقق هذا الهجوم نصراً فرنسياً حاسماً في معركة مارينغو في يونيو 1800، وبعدها انسحب النمساويون من شبه الجزيرة الإيطالية مرة أخرى.

تبع ذلك انتصار فرنسي ساحق آخر في معركة هوهينليندن في بافاريا، مما أجبر النمساويين على السعي لتحقيق السلام للمرة الثانية. أسفر هذا عن توقيع معاهدة لونيفيل في عام 1801. ومع خروج النمسا وروسيا من الحرب، وجدت بريطانيا العظمى نفسها معزولة بشكل متزايد ودون حلفاء أقوياء في القارة. وهكذا، وافقت بريطانيا على توقيع معاهدة أميان مع حكومة نابليون عام 1802، مما أدى إلى اختتام الحروب الثورية الفرنسية رسمياً.

على الرغم من إعلان السلام، إلا أن التوترات المستمرة بين القوى الأوروبية أثبتت صعوبة احتوائها. لم يمر سوى أكثر من عام واحد حتى اندلعت سلسلة جديدة من الصراعات الكبرى، عُرفت هذه المرة بـالحروب النابليونية، بتشكيل التحالف الثالث ضد فرنسا، لتستمر بذلك سلسلة حروب التحالف التي غيرت خريطة أوروبا ومستقبلها لقرون قادمة.

الأسئلة المتكررة (FAQs)

ما هي الحروب الثورية الفرنسية؟

الحروب الثورية الفرنسية كانت سلسلة من الصراعات العسكرية الكبرى التي دارت بين فرنسا الثورية والقوى الأوروبية المتحالفة ضدها، واستمرت من عام 1792 حتى عام 1802. نشأت هذه الحروب نتيجة للثورة الفرنسية والرغبة في احتواء انتشار مبادئها الثورية.

ما هي الأسباب الرئيسية لاندلاع هذه الحروب؟

الأسباب الرئيسية تضمنت قلق الممالك الأوروبية من انتشار الأفكار الثورية الفرنسية التي هددت استقرار أنظمتهم، والرغبة في استعادة الملكية الفرنسية، بالإضافة إلى إعلان فرنسا للحرب على النمسا وبروسيا كخطوة استباقية في مواجهة التهديدات الخارجية.

من كانت الأطراف الرئيسية في هذه الصراعات؟

كانت فرنسا هي الطرف الرئيسي على جانب الثوريين، بينما واجهت تحالفات ضمت قوى كبرى مثل بريطانيا العظمى، والنمسا، وبروسيا، وروسيا، بالإضافة إلى العديد من الدول الأوروبية الأخرى في أوقات مختلفة.

كيف تم تقسيم هذه الحروب زمنياً؟

تنقسم الحروب الثورية الفرنسية عادةً إلى فترتين رئيسيتين: حرب التحالف الأول (1792-1797) وحرب التحالف الثاني (1798-1802).

ما هو الدور الذي لعبه نابليون بونابرت في هذه الحروب؟

برز نابليون بونابرت كقائد عسكري لامع خلال هذه الحروب، خاصة في حملته الإيطالية الأولى (1796-1797) التي حقق فيها انتصارات حاسمة، ومرة أخرى في حملة التحالف الثاني، حيث عاد من مصر لينفذ انقلاب 18 برومير ويتولى منصب القنصل الأول، ويقود الجيوش الفرنسية نحو انتصارات حاسمة في مارينغو وهوهينليندن.

ما هي أبرز النتائج والتداعيات لهذه الحروب؟

من أبرز النتائج: توسع نفوذ فرنسا واحتلالها لمناطق في إيطاليا والبلدان المنخفضة والراينلاند، انتشار المبادئ الثورية الفرنسية في أوروبا، تزايد قوة بريطانيا البحرية، وصعود نجم نابليون بونابرت الذي سيقود لاحقاً الحروب النابليونية، وبيع لويزيانا في أمريكا الشمالية للولايات المتحدة.

كيف انتهت الحروب الثورية الفرنسية؟

انتهت هذه الحروب بتوقيع معاهدتي لونيفيل عام 1801 (مع النمسا) وأميان عام 1802 (مع بريطانيا العظمى)، مما أدى إلى فترة سلام مؤقتة قبل اندلاع الحروب النابليونية.