تبدأ الخدمة التجارية للكونكورد بخط لندن - البحرين وباريس - ريو.

تُعد طائرة كونكورد، ثمرة التعاون الهندسي بين فرنسا وبريطانيا، أيقونة فريدة في تاريخ الطيران المدني. لم تكن هذه الطائرة النفاثة الأسرع من الصوت مجرد وسيلة نقل، بل كانت رمزًا للتقدم البشري والقدرة على تجاوز حدود السرعة، مقدمةً تجربة سفر لا مثيل لها للمسافرين المتميزين. جاء اسمها "كونكورد" ليعكس روح التوافق والانسجام بين الدولتين الشريكتين في هذا المشروع الطموح، مما جسد وحدة الرؤية الأوروبية آنذاك.

تصميم وإنجاز هندسي رائد

منذ إطلاقها الأول في عام 1969 ودخولها الخدمة الفعلية في عام 1976، أذهلت الكونكورد العالم بقدراتها الفائقة. كانت قادرة على التحليق بسرعة تزيد عن ضعفي سرعة الصوت، حيث بلغت سرعتها القصوى 2.04 ماخ (ما يعادل 1,354 ميلاً في الساعة أو 2,180 كيلومترًا في الساعة عند ارتفاع التحليق). هذا الارتفاع الشاهق، الذي يصل إلى حدود الستراتوسفير، لم يوفر لها سرعة استثنائية فحسب، بل أتاح للمسافرين رؤية انحناء الأرض من نوافذها، في تجربة تعد بحد ذاتها قمة الرفاهية والمغامرة. صُممت الطائرة لتستوعب ما بين 92 إلى 128 راكبًا، مقدمةً مقصورة فاخرة تليق بفئتها المتميزة.

كانت الكونكورد واحدة من طرازين فقط من الطائرات التجارية الأسرع من الصوت التي دخلت الخدمة على الإطلاق، مع الأخرى هي الطائرة السوفيتية توبوليف تو-144. ورغم أن كلا الطائرتين جسدتا طموح عصرها، إلا أن الكونكورد تفوقت على نظيرتها السوفيتية من حيث طول مدة الخدمة وموثوقيتها، لتظل في الذاكرة كنموذج للمثابرة والتفوق التكنولوجي.

مسيرة تشغيلية امتدت لسبعة وعشرين عامًا

تم تطوير وتصنيع الكونكورد بشكل مشترك بموجب معاهدة أنجلو-فرنسية تاريخية، حيث توحدت جهود شركتي "سود أفياسيون" الفرنسية (التي أصبحت لاحقًا "إيروسباسيال") و"شركة الطائرات البريطانية". وقد عكس هذا التعاون تحديًا كبيرًا في التنسيق التقني واللوجستي لمشروع بهذا الحجم. تم بناء عشرين طائرة من طراز الكونكورد في المجموع، شملت ستة نماذج أولية وتطويرية مخصصة للاختبار والتقييم قبل بدء الإنتاج التجاري.

كانت الخطوط الجوية الفرنسية والخطوط الجوية البريطانية هما الناقلتان الجويتان الوحيدتان اللتان امتلكتا وشغلتا الكونكورد، مما أضاف إلى هالتها الحصرية. وقد استقطبت هذه الطائرة نخبة من المسافرين الأثرياء ورجال الأعمال، الذين كانوا على استعداد لدفع أسعار باهظة مقابل السرعة والخدمة الفاخرة التي لا تقدر بثمن. ففي عام 1997، على سبيل المثال، وصل سعر تذكرة الذهاب والإياب من نيويورك إلى لندن إلى 7,995 دولارًا أمريكيًا (أي ما يعادل 12,900 دولارًا في عام 2020)، وهو ما كان يزيد بأكثر من 30 مرة عن تكلفة أرخص رحلة مجدولة على نفس المسار، مما يؤكد مكانتها كرمز للرفاهية المطلقة.

التحديات الاقتصادية والقيود التشغيلية

لم يكن مشروع الكونكورد خاليًا من التحديات، خاصة فيما يتعلق بتكاليفه الباهظة. في عام 1962، قُدرت التكلفة الأصلية للبرنامج بحوالي 70 مليون جنيه إسترليني (ما يعادل 1.39 مليار جنيه إسترليني في عام 2020). إلا أن المشروع واجه تجاوزات كبيرة في التكاليف وتأخيرات جمة، ليبلغ إجمالي الإنفاق في عام 1976 ما بين 1.5 و 2.1 مليار جنيه إسترليني (أي ما يتراوح بين 9.44 و 13.2 مليار جنيه إسترليني بأسعار عام 2020). كانت هذه التكاليف الفلكية أحد الأسباب الرئيسية التي حدت من حجم الإنتاج، حيث لم يتم بناء سوى عدد محدود من الطائرات.

علاوة على ذلك، واجهت جميع برامج النقل الأسرع من الصوت قيودًا تشغيلية كبيرة؛ فبسبب ظاهرة دوي اختراق حاجز الصوت (Sonic Boom)، التي تحدث عندما تتجاوز الطائرة سرعة الصوت وتُحدث موجات صدمة صوتية مزعجة، كان استخدام الكونكورد مقصورًا بشكل أساسي على الرحلات العابرة للمحيطات. وقد فرضت معظم الدول حظرًا على الطيران الأسرع من الصوت فوق المناطق المأهولة بالسكان، مما قلل من مرونة تشغيل الطائرة وقصر مساراتها المربحة.

مع تشغيل سبع طائرات فقط لكل من الخطوط الجوية البريطانية والفرنسية، كان من المستحيل استرداد تكاليف التطوير الهائلة من مبيعات الوحدات. لذا، تحملت الحكومتان الفرنسية والبريطانية معظم نفقات التطوير. ومع ذلك، تمكنت كلتا الخطوط الجوية من تشغيل طائرات الكونكورد الخاصة بهما بشكل مربح، ويرجع الفضل في ذلك جزئيًا إلى شرائهما للطائرات من حكوماتهم بخصم كبير جدًا مقارنة بتكاليف تطوير البرنامج والمشتريات الأصلية، بالإضافة إلى الأسعار العالية للتذاكر التي كانت تفرضها.

رحلات استثنائية وتجربة سفر فريدة

اشتهرت الكونكورد بعبورها المحيط الأطلسي في أقل من نصف الوقت الذي تستغرقه الطائرات التجارية التقليدية. فبينما كانت الطائرات دون سرعة الصوت تستغرق حوالي ثماني ساعات للطيران من باريس إلى نيويورك (وسبع ساعات في الاتجاه المعاكس)، كانت الكونكورد تنجز الرحلة في متوسط يقل قليلًا عن 3.5 ساعة. وقد ربطت الطائرة مطار شارل ديغول في باريس بمطار جون إف كينيدي الدولي في نيويورك، ومطار واشنطن دالاس الدولي في فيرجينيا، وكذلك مطار جرانتلي آدامز الدولي في باربادوس، مما فتح آفاقًا جديدة للسفر السريع والفاخر.

الوداع الأخير: التقاعد والإرث

بعد 27 عامًا من الخدمة المرموقة، تقاعدت طائرات الكونكورد في عام 2003. وجاء هذا القرار بعد سلسلة من العوامل المعقدة. كان الحادث المأساوي لرحلة الخطوط الجوية الفرنسية رقم 4590 في يوليو 2000، والذي أسفر عن مقتل جميع الركاب وأفراد الطاقم إثر تحطم الطائرة بعد إقلاعها من باريس بسبب قطعة معدنية على المدرج تسببت في انفجار إطار وتلف خزان الوقود، نقطة تحول حاسمة. ورغم أنه كان الحادث المميت الوحيد في تاريخ الكونكورد، إلا أنه أثر بشكل كبير على ثقة الجمهور.

ساهمت عوامل أخرى في قرار التقاعد، أبرزها الانكماش العام في صناعة الطيران التجاري الذي أعقب هجمات 11 سبتمبر 2001، مما أدى إلى تراجع كبير في الطلب على السفر الجوي الفاخر. بالإضافة إلى ذلك، أعلنت شركة إيرباص، التي خلفت "إيروسباسيال" كجهة مصنعة، عن إنهاء دعم الصيانة لطائرات الكونكورد، مما جعل استمرار تشغيلها مكلفًا للغاية وغير مجدٍ اقتصاديًا في ظل الظروف الجديدة. وهكذا، أسدلت الستارة على حقبة ذهبية من تاريخ الطيران، تاركةً وراءها إرثًا من الابتكار والجمال الهندسي، لتظل الكونكورد رمزًا للحلم البشري بتحقيق أقصى سرعات الطيران المدني.

الأسئلة الشائعة حول الكونكورد

ما هي طائرة الكونكورد؟
طائرة الكونكورد هي طائرة ركاب أسرع من الصوت، فرنسية بريطانية الصنع، اشتهرت بسرعتها الفائقة وتصميمها الأنيق وخدمتها الفاخرة، وقد عملت في الفترة من 1976 إلى 2003.
ما هي السرعة القصوى للكونكورد؟
كانت السرعة القصوى للكونكورد تبلغ 2.04 ماخ (حوالي 2180 كيلومترًا في الساعة أو 1354 ميلاً في الساعة) عند ارتفاع التحليق، أي أكثر من ضعف سرعة الصوت.
كم عدد الركاب الذين يمكن للكونكورد استيعابهم؟
تراوحت سعة الكونكورد بين 92 و 128 راكبًا، حسب التكوين الداخلي للناقل الجوي.
من هي الشركات المصنعة للكونكورد؟
تم تطوير وتصنيع الكونكورد بشكل مشترك من قبل شركتي "سود أفياسيون" (لاحقًا "إيروسباسيال") الفرنسية و"شركة الطائرات البريطانية" (BAC).
ما هي الخطوط الجوية التي شغلت الكونكورد؟
كانت الخطوط الجوية الفرنسية والخطوط الجوية البريطانية هما الناقلتان الجويتان الوحيدتان اللتان اشترتا وشغلتا الكونكورد.
لماذا كانت رحلات الكونكورد باهظة الثمن؟
كانت رحلات الكونكورد باهظة الثمن بسبب التكاليف الهائلة لتطويرها وتشغيلها وصيانتها، بالإضافة إلى الخدمة الفاخرة والحصرية التي كانت تقدمها وتوفيرها للوقت للمسافرين الأثرياء ورجال الأعمال.
لماذا تقاعدت طائرة الكونكورد؟
تقاعدت الكونكورد في عام 2003 بسبب عدة عوامل، أهمها حادث تحطم رحلة الخطوط الجوية الفرنسية رقم 4590 عام 2000، والانكماش في صناعة الطيران بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، وإنهاء شركة إيرباص لدعم الصيانة للطائرة.
هل كانت الكونكورد هي الطائرة التجارية الوحيدة الأسرع من الصوت؟
لا، كانت الكونكورد واحدة من طرازين فقط من الطائرات التجارية الأسرع من الصوت. الأخرى كانت الطائرة السوفيتية توبوليف تو-144، التي دخلت الخدمة لفترة أقصر وأكثر تحديًا.