الحروب النابليونية: حرب التحالف الثالث: معركة كيب فينيستيري: خاض عمل بحري غير حاسم بين أسطول فرنسي وإسباني مشترك بقيادة الأدميرال بيير تشارلز فيلنوف من إسبانيا وأسطول بريطاني بقيادة الأدميرال روبرت كالدر.
شكلت الحروب النابليونية، التي استمرت من عام 1803 حتى عام 1815، حقبة فاصلة في تاريخ أوروبا والعالم، حيث كانت عبارة عن سلسلة متشابكة من الصراعات العسكرية العالمية الكبرى. وضعت هذه الحروب الإمبراطورية الفرنسية، تحت القيادة العسكرية والسياسية الفذة لنابليون بونابرت، في مواجهة ائتلافات متغيرة باستمرار من القوى الأوروبية الكبرى. أدت هذه المواجهات إلى فترة غير مسبوقة من الهيمنة الفرنسية على معظم القارة الأوروبية، مخلفة وراءها إرثاً عميقاً من التغيير السياسي والاجتماعي والعسكري.
لم تكن هذه الحروب معزولة عن سياقها التاريخي؛ بل كانت بمثابة امتداد طبيعي للخلافات العميقة وغير المحسومة التي نشأت عن الثورة الفرنسية (1789-1799) والصراع الأيديولوجي والجيوسياسي الذي تبعها. كانت الأنظمة الملكية الأوروبية التقليدية تنظر بعين الريبة والقلق إلى المبادئ الجمهورية الفرنسية وطموحاتها التوسعية، مما مهد الطريق لسلسلة لا تنتهي من المواجهات. غالبًا ما تُصنف هذه الحروب إلى خمس صراعات رئيسية، يُطلق على كل منها اسم التحالف الذي واجه نابليون:
- التحالف الثالث (1805): الذي شهد انتصار نابليون الساحق في أوسترليتز.
- التحالف الرابع (1806–1807): الذي قامت فيه بروسيا وروسيا بمواجهة القوات الفرنسية.
- التحالف الخامس (1809): بقيادة النمسا.
- التحالف السادس (1813–1814): الذي حشد قوى كبرى ضد فرنسا بعد كارثة روسيا.
- التحالف السابع (1815): المعروف بحملة المائة يوم ومعركة واترلو الحاسمة.
صعود نابليون وتوطيد السلطة
عندما تولى نابليون بونابرت منصب القنصل الأول لفرنسا في عام 1799، وجد جمهورية غارقة في الفوضى السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها الثورة. ببراعة استثنائية، شرع في بناء دولة قوية ومستقرة. لقد أعاد تنظيم الموارد المالية لفرنسا، مؤسسًا البنك المركزي الفرنسي لضمان استقرار العملة، وأنشأ بيروقراطية فعالة ومركزية، وعزز جيشًا مدربًا تدريبًا عاليًا ومجهزًا تجهيزًا جيدًا، كان على أهبة الاستعداد لتنفيذ رؤيته التوسعية. هذه الإصلاحات الداخلية، بما في ذلك إقرار القانون المدني (قانون نابليون)، لم تضع فقط أسس الدولة الفرنسية الحديثة بل وفرت له القاعدة التي انطلق منها لفرض هيمنته على أوروبا.
في ديسمبر من عام 1805، حقق نابليون ما يعتبر على نطاق واسع أعظم انتصار له على الإطلاق في معركة أوسترليتز، أو "معركة الأباطرة الثلاثة". في هذه المعركة، ألحق هزيمة نكراء بالجيشين الروسي والنمساوي المتحالفين، مؤكدًا عبقريته التكتيكية وممهدًا الطريق لسيطرة فرنسية أوسع على أوروبا الوسطى وتفكيك الإمبراطورية الرومانية المقدسة. ومع ذلك، لم يكن النجاح حليف الفرنسيين في كل الجبهات. في البحر، كانت القوة البريطانية لا تزال لا تُقهر.
معركة ترافالغار: السيطرة البريطانية على البحار
قبل شهرين من أوسترليتز، وتحديداً في 21 أكتوبر 1805، وقعت معركة ترافالغار البحرية قبالة سواحل إسبانيا. في هذه المعركة الحاسمة، دمر الأسطول البريطاني بقيادة الأدميرال هوراشيو نيلسون، على الرغم من فقده حياته في المعركة، الأسطول الفرنسي الإسباني المشترك بشكل كامل. أمن هذا الانتصار الساحق السيطرة البريطانية المطلقة على البحار لعقود قادمة، وأحبط بشكل حاسم أي خطط فرنسية لغزو بريطانيا العظمى، مؤكدًا مكانتها كقوة بحرية لا تُنازع.
التحديات الجديدة والتحالفات المتغيرة
مع تزايد قوة فرنسا وتوسع نفوذها في القارة، بدأت بروسيا، التي شعرت بالتهديد، في قيادة تشكيل التحالف الرابع. انضمت روسيا وساكسونيا والسويد إلى هذا التحالف، واستؤنفت الحرب في أكتوبر 1806. ولكن نابليون، بجيوشه المتفوقة، هزم البروسيين بسرعة في معركتي يينا وأويرشتدت، ثم الروس في فريدلاند، مما أدى إلى فرض "سلام تيلسيت" الهش وغير المستقر في القارة عام 1807. هذا السلام مكن نابليون من فرض النظام القاري، وهو حصار اقتصادي واسع النطاق يهدف إلى إضعاف بريطانيا.
لم يدم السلام طويلاً. ففي عام 1809، اندلعت الحرب مجددًا مع تشكيل التحالف الخامس الذي كان بقيادة النمسا. على الرغم من أن النمساويين حققوا في البداية انتصارًا مفاجئًا ومذهلاً في معركة أسبيرن-إيسلينغ، إلا أنهم سرعان ما هُزموا بشكل حاسم في معركة فاغرام. كانت فاغرام إحدى أكثر المعارك دموية في التاريخ حتى ذلك الوقت، وأعادت تأكيد السيطرة الفرنسية على وسط أوروبا.
حرب شبه الجزيرة الإيبيرية والغزو الروسي: نقطة التحول
على أمل عزل وإضعاف بريطانيا اقتصاديًا بشكل كامل عبر نظامه القاري، الذي يحظر التجارة معها، شن نابليون غزوًا للبرتغال، الحليف البريطاني الوحيد المتبقي في أوروبا القارية. بعد احتلال لشبونة في نوفمبر 1807، واستغلالًا لوجود الجزء الأكبر من القوات الفرنسية في إسبانيا، انتهز نابليون الفرصة للانقلاب على حليفه الإسباني السابق. قام بعزل العائلة المالكة الإسبانية البوربونية الحاكمة، وأعلن شقيقه جوزيف ملكًا على إسبانيا في عام 1808 تحت اسم خوسيه الأول.
أثار هذا العمل ثورة واسعة النطاق في إسبانيا والبرتغال. بدعم بريطاني قوي، نشبت حرب شبه الجزيرة الإيبيرية، وهي صراع مرير استمر لست سنوات. شهدت هذه الحرب أشكالًا جديدة من القتال، أبرزها حرب العصابات ("الغوريلا" وهي كلمة إسبانية تعني "الحرب الصغيرة"). على الرغم من حجم القوات الفرنسية، فإن المقاومة الشديدة والتضاريس الوعرة والدعم البريطاني المستمر، بقيادة دوق ويلينغتون، أدت إلى طرد الفرنسيين من شبه الجزيرة الإيبيرية بحلول عام 1814. كانت هذه الحرب بمثابة "قرحة إسبانية" استنزفت موارد نابليون وقواته بشكل كبير.
في الوقت نفسه، لم تكن روسيا راغبة في تحمل العواقب الاقتصادية الوخيمة لانخفاض التجارة بسبب النظام القاري. لذلك، انتهكت بشكل روتيني هذا النظام، مما دفع نابليون إلى اتخاذ قرار كارثي بشن غزو واسع النطاق لروسيا في عام 1812. كانت هذه الحملة، التي شارك فيها الجيش الكبير الذي ضم قوات من مختلف أنحاء أوروبا، مدمرة لفرنسا. أدت استراتيجية "الأرض المحروقة" الروسية، والمسافات الشاسعة، والشتاء القارس، والمقاومة الشرسة إلى تدمير شبه كامل لجيش نابليون، مما شكل نقطة تحول حاسمة في الحروب النابليونية.
سقوط نابليون وعودة السلام
بتشجيع من الكارثة الروسية وضعف القوات الفرنسية، شكلت القوى الأوروبية الكبرى – النمسا وبروسيا والسويد وروسيا – التحالف السادس. بدأت هذه القوى حملة جديدة ومنسقة ضد فرنسا، ونجحت في هزيمة نابليون بشكل حاسم في معركة لايبزيغ في أكتوبر 1813، والتي تُعرف أيضًا باسم "معركة الأمم" نظرًا لمشاركة جيوش متعددة فيها. كانت هذه المعركة واحدة من أكبر المعارك في التاريخ وشكلت ضربة قاضية لهيمنة نابليون.
بعد الهزيمة في لايبزيغ، غزا الحلفاء فرنسا من الشرق، بينما امتدت حرب شبه الجزيرة لتصل إلى جنوب غرب فرنسا. استولت قوات التحالف على باريس في نهاية مارس 1814، مما أجبر نابليون على التنازل عن العرش في أبريل من العام نفسه. تم نفيه إلى جزيرة إلبا الصغيرة في البحر الأبيض المتوسط، وأُعيدت سلالة البوربون الملكية إلى السلطة في فرنسا، في محاولة لاستعادة النظام القديم.
حملة المائة يوم وواترلو
لكن نابليون، بقوته العزيمة والكاريزما التي لا تزال آسرة، هرب من إلبا في فبراير 1815، وعاد إلى فرنسا. استعاد السيطرة على البلاد بسهولة بالغة، مستفيدًا من عدم شعبية البوربون، في فترة عُرفت باسم "حملة المائة يوم". ردًا على ذلك، سارعت القوى الأوروبية إلى تشكيل التحالف السابع والأخير، عازمة على وضع حد نهائي لطموحات نابليون. في يونيو 1815، التقى الحلفاء بقيادة دوق ويلينغتون (بريطانيا) وجيبارد فون بلوخر (بروسيا) بقوات نابليون في معركة واترلو في بلجيكا. كانت هذه المعركة الفاصلة هزيمة ساحقة لنابليون، وتم نفيه هذه المرة إلى جزيرة سانت هيلانة النائية في جنوب المحيط الأطلسي، حيث توفي بعد ست سنوات في عام 1821.
مؤتمر فيينا وتداعيات الحروب
بعد نهاية الحروب النابليونية، اجتمع ممثلو القوى الأوروبية الكبرى في مؤتمر فيينا (1814-1815) لإعادة رسم حدود أوروبا وتثبيت الاستقرار. هدف المؤتمر إلى استعادة التوازن السياسي في القارة ومنع صعود قوة مهيمنة أخرى. أسفرت نتائج المؤتمر عن فترة من السلام النسبي في أوروبا القارية، استمرت حتى حرب القرم في عام 1853.
كان للحروب النابليونية عواقب وخيمة ودائمة على التاريخ العالمي. من أبرز هذه العواقب:
- انتشار القومية والليبرالية: حيث أيقظت الاحتلالات الفرنسية الشعور بالهوية الوطنية في العديد من البلدان، ونشرت مبادئ الثورة الفرنسية.
- صعود بريطانيا: أصبحت بريطانيا القوة البحرية والاقتصادية الأولى في العالم، مستفيدة من تفوقها الصناعي وحمايتها من الغزو.
- حركات الاستقلال في أمريكا اللاتينية: استغلت المستعمرات الإسبانية والبرتغالية ضعف القوى الأم بعد الحروب لتحقيق استقلالها.
- تراجع الإمبراطوريتين الإسبانية والبرتغالية: بسبب فقدان مستعمراتهما وثقل الحروب.
- إعادة تنظيم الأراضي الألمانية والإيطالية: تم دمج العديد من الولايات الصغيرة في كيانات أكبر، مما مهد الطريق لتوحيد ألمانيا وإيطاليا لاحقًا.
- إدخال أساليب جديدة كليًا لإدارة الحرب: مثل التعبئة الشاملة، والجيوش الكبيرة، واللوجستيات المعقدة.
- نشر القانون المدني (قانون نابليون): الذي أثر بشكل عميق على الأنظمة القانونية في العديد من الدول.
لمحة عن معركة كيب فينيستيري (1805)
قبل معركة ترافالغار الشهيرة، كانت هناك مواجهة بحرية أقل حسمًا ولكنها ذات أهمية استراتيجية. في 22 يوليو 1805، قبالة سواحل غاليسيا بإسبانيا، خاض الأسطول البريطاني بقيادة الأدميرال روبرت كالدر معركة بحرية ضد الأسطول الفرنسي-الإسباني المشترك الذي كان في طريقه عائداً من جزر الهند الغربية. كان الهدف الاستراتيجي للأدميرال الفرنسي بيير دي فيلنوف هو تشتيت الأساطيل البريطانية في المحيط الأطلسي والعودة بسرعة إلى القناة الإنجليزية لتطهيرها من السفن البريطانية، مما يفتح الطريق أمام غزو نابليون لبريطانيا العظمى.
فشلت معركة كيب فينيستيري في تحقيق أي من الأهداف الحاسمة. لم يتمكن كالدر من منع انضمام أسطول فيلنوف إلى سرب فيرول، ولم يوجه الضربة المدمرة التي كانت ستحرر بريطانيا من خطر الغزو بشكل كامل. ونتيجة لذلك، تعرض كالدر لاحقًا للمحاكمة العسكرية وتم توبيخه بشدة على فشله في تجديد الاشتباك في 23 و 24 يوليو، بعد أن كان لديه فرصة لتحقيق نصر حاسم. في الوقت نفسه، اختار فيلنوف، في أعقاب المعركة، عدم الاستمرار في طريق بريست، حيث كان من الممكن أن ينضم أسطوله إلى السفن الفرنسية الأخرى لتجميع قوة كافية لتطهير القناة الإنجليزية. هذا القرار كان له تداعيات كبيرة، حيث أن هذا الفشل في تحقيق أهدافه الاستراتيجية كان مقدمة لمعركة ترافالغار الحاسمة.
الأسئلة الشائعة حول الحروب النابليونية
- ما هي الحروب النابليونية ومتى وقعت؟
- هي سلسلة من الصراعات العسكرية الكبرى التي دارت بين الإمبراطورية الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت وتحالفات متغيرة من القوى الأوروبية، وامتدت من عام 1803 إلى عام 1815.
- ما هو سبب اندلاع الحروب النابليونية؟
- نشأت الحروب من الخلافات غير المحسومة المرتبطة بالثورة الفرنسية، وطموحات فرنسا التوسعية، ورغبة الأنظمة الملكية الأوروبية في كبح جماح الجمهورية الفرنسية ومنع انتشار أفكارها الثورية.
- ما هي أهم المعارك البرية والبحرية في هذه الحروب؟
- من أبرز المعارك البرية: أوسترليتز، يينا، فاغرام، لايبزيغ، وواترلو. أما أهم المعارك البحرية فكانت معركة ترافالغار، التي أكدت السيطرة البريطانية على البحار.
- ما هو النظام القاري ولماذا فرضه نابليون؟
- كان النظام القاري عبارة عن حصار اقتصادي واسع النطاق فرضه نابليون على الدول الأوروبية بهدف منعها من التجارة مع بريطانيا العظمى. كان هدفه الأساسي هو إضعاف الاقتصاد البريطاني وعزلها سياسياً.
- كيف انتهت الحروب النابليونية؟
- انتهت الحروب بالهزيمة النهائية لنابليون في معركة واترلو عام 1815، ونفيه إلى جزيرة سانت هيلانة. تلا ذلك مؤتمر فيينا الذي أعاد رسم خريطة أوروبا السياسية وأرسى فترة من السلام النسبي.
- ما هي أبرز النتائج والتداعيات طويلة المدى للحروب النابليونية؟
- شملت النتائج انتشار الأفكار القومية والليبرالية، وصعود بريطانيا كقوة عالمية مهيمنة، وظهور حركات الاستقلال في أمريكا اللاتينية، وإعادة تنظيم الأراضي الألمانية والإيطالية، وتطوير أساليب جديدة للحرب، ونشر القانون المدني (قانون نابليون).