الحروب الإيطالية: معركة نوفارا. القوات السويسرية تهزم الفرنسيين تحت قيادة لويس الثاني دي لا ترموي ، مما أجبر الفرنسيين على التخلي عن ميلانو. تم استعادة دوق ماسيميليانو سفورزا.
تشير الحروب الإيطالية، والتي تُعرف أحيانًا بـ حروب هابسبورغ-فالوا، إلى سلسلة معقدة وواسعة النطاق من النزاعات العسكرية التي اجتاحت شبه الجزيرة الإيطالية على مدى ستة عقود تقريبًا، وذلك في الفترة الممتدة من عام 1494 إلى عام 1559. لم تكن هذه الحروب مجرد صراعات محلية، بل كانت مسرحًا لتنافس القوى الأوروبية العظمى آنذاك، لتحديد مَن سيُهيمن على القارة. كانت إيطاليا في تلك الحقبة بمثابة جوهرة ثمينة، تزخر بالثراء الثقافي والاقتصادي، لكنها كانت أيضًا مقسّمة سياسيًا إلى دول مدن وممالك صغيرة، مما جعلها هدفًا مغريًا للقوى الخارجية الطامعة في نفوذها ومواردها.
كان الخصمان الرئيسيان في هذه السلسلة من الصراعات هما ملوك سلالة فالوا الفرنسية، الذين كانوا يطمحون إلى توسيع نفوذهم وسيطرتهم في إيطاليا، وخصومهم اللدودين من سلالة هابسبورغ، التي كانت تحكم إسبانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة. هذه القوى العظمى لم تكن تخوض المعارك بمفردها، بل كانت مدعومة في أوقات مختلفة من قِبل العديد من الدول الإيطالية مثل دوقية ميلانو وجمهورية البندقية، إلى جانب دول المدن الأخرى التي كانت تُغيّر ولاءاتها وفقًا لمصالحها المتغيرة. انتهت هذه الحقبة الدموية بتوقيع سلام كاتو-كامبريسيس عام 1559، والذي لم يضع حدًا للصراعات فحسب، بل أعاد تشكيل الخارطة السياسية لإيطاليا وأوروبا، وأرسى دعائم هيمنة سلالة هابسبورغ كقوة مهيمنة في شبه الجزيرة الإيطالية.
الأسباب الجذرية وشرارة الصراع
قبل اندلاع هذه الحروب، شهدت إيطاليا فترة استقرار نسبي وازدهار اقتصادي ملموس، وذلك بفضل الدوري الإيطالي الذي تأسس عام 1454. هذا الدوري، الذي كان يهدف إلى إقامة توازن للقوى بين الدول الإيطالية المتنافسة، أسفر عن عصر ذهبي من النمو التجاري والثقافي، وهو العصر الذي يُعرف غالبًا بعصر النهضة الإيطالية. لكن هذا التوازن الهش لم يدم طويلاً، فقد بدأ في الانهيار مع وفاة لورنزو دي ميديشي، المعروف بـ "العظيم"، في عام 1492. كان لورنزو شخصية محورية، بصفته حاكم فلورنسا غير الرسمي ودبلوماسيًا ماهرًا، وقد لعب دورًا كبيرًا في الحفاظ على السلام والاستقرار في إيطاليا.
مع غياب لورنزو، تزايدت الطموحات الشخصية والمنافسات بين الأمراء الإيطاليين، وأبرزها طموح لودوفيكو سفورزا، دوق ميلانو، الذي سعى لتوسيع نفوذه. انهيار هذا التوازن السياسي والاضطرابات الداخلية هي التي مهدت الطريق أمام تشارلز الثامن ملك فرنسا لغزو مملكة نابولي عام 1494، مدعيًا حقوقًا وراثية. لم يكن هذا الغزو مجرد نزاع محلي، بل كان بمثابة إعلان صريح لتحدي القوى الأوروبية الأخرى، حيث أثار ردود فعل فورية من إسبانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة، اللتين اعتبرتا التوسع الفرنسي تهديدًا لمصالحهما الإقليمية. ورغم أن تشارلز الثامن اضطر إلى الانسحاب عام 1495 بسبب تشكيل تحالف ضده، إلا أن غزوه أظهر للعالم أن الولايات الإيطالية، على الرغم من ثرائها، كانت ضعيفة للغاية بسبب انقساماتها السياسية الداخلية، مما جعلها هدفًا سهلاً للقوى الخارجية الطامعة. وهكذا، تحولت إيطاليا إلى ساحة معركة رئيسية في الصراع الأوسع للهيمنة الأوروبية بين سلالتي فالوا وهابسبورغ، مع امتداد الصراع ليشمل مناطق أخرى مثل فلاندرز وراينلاند وحتى حوض البحر الأبيض المتوسط. وخلال فترات قصيرة، شاركت قوى خارجية أخرى في هذه الحروب، أبرزها إنجلترا والإمبراطورية العثمانية، مما أضاف تعقيدًا أكبر للمشهد الجيوسياسي.
تحول طبيعة الحرب والابتكارات العسكرية
اتسمت الحروب الإيطالية بوحشية شديدة، وتزامن وقوعها مع خلفية من الاضطرابات الدينية العميقة التي سببتها حركة الإصلاح البروتستانتي، لا سيما في فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدسة. هذا الاضطراب الديني أثر على الديناميكيات الداخلية للقوى المشاركة، وزاد من حدة الصراعات أحيانًا. من منظور تاريخي وعسكري، تُعتبر هذه الحروب نقطة تحول حاسمة في الانتقال من أساليب الحرب في العصور الوسطى إلى الحرب الحديثة. فقد شهدت هذه الفترة تطورات تكنولوجية وعسكرية مهمة للغاية، مثل الاستخدام الواسع النطاق للقربينة (Arquebus) أو المسدس البدائي، الذي أصبح سلاحًا شائعًا ومؤثرًا في ساحات القتال، مما غير من تكتيكات المشاة وأضعف هيمنة الفرسان الثقيلة. بالإضافة إلى ذلك، شهدت مدفعية الحصار تحسينات تكنولوجية كبيرة، مما جعلها أكثر فعالية في اختراق الدفاعات الحصينة للمدن والقلاع.
لم تقتصر التطورات على الأسلحة فقط، بل شملت أيضًا الجانب الفكري والإداري للحرب. فقد كان القادة العسكريون في هذه الحروب أكثر تعليمًا ودراية بفنون الحرب من أسلافهم في العصور الوسطى. كما أن ظهور أساليب الطباعة الحديثة في تلك الحقبة ساهم بشكل كبير في توثيق هذه الصراعات، مما جعلها من أوائل النزاعات التي تتوافر عنها عدد كبير من الروايات المعاصرة والمفصلة. من أبرز هؤلاء المؤرخين والكتاب العسكريين الذين قدموا رؤى قيمة عن تلك الفترة فرانشيسكو غوتشيارديني ونيكولو مكيافيلي، اللذان قدما تحليلات عميقة للسياسة والحرب، وكذلك بليز دي مونتلوك، الذي كتب مذكرات شخصية عن تجاربه العسكرية، مما أثرى فهمنا لتلك الحقبة الدامية.
التداعيات السياسية والجيوسياسية
معركة نوفارا (1513): نقطة تحول مبكرة
بعد عام 1503، تركزت معظم الاشتباكات حول الغزوات الفرنسية المتكررة لمناطق لومبارديا وبيدمونت في شمال إيطاليا. وعلى الرغم من أن القوات الفرنسية كانت قادرة على احتلال الأراضي لفترات زمنية، إلا أنها لم تتمكن من الاحتفاظ بها بشكل دائم، وذلك بسبب المقاومة الشديدة وتحالفات القوى الأخرى ضدهم. من أبرز هذه المواجهات كانت معركة نوفارا، المعروفة أيضًا باسم معركة أريوتا، التي وقعت في 6 يونيو 1513 بالقرب من مدينة نوفارا في شمال إيطاليا. كانت هذه المعركة جزءًا من حرب عصبة كامبراي، وهي إحدى المراحل المعقدة ضمن الحروب الإيطالية الأوسع نطاقًا. في هذه المعركة، تعرضت قوة فرنسية مهاجمة لهزيمة قاسية على يد القوات السويسرية المتحالفة مع دوقية ميلانو، وكانت النتيجة الحتمية هي إجبار فرنسا على الانسحاب بالكامل من إيطاليا، في ضربة قوية لطموحاتها في السيطرة على شبه الجزيرة.
نهاية الحروب وسلام كاتو-كامبريسيس
بحلول عام 1557، كانت كل من فرنسا والإمبراطورية الرومانية المقدسة تواجهان انقسامات داخلية خطيرة بسبب الصراعات الدينية التي أثارتها حركة الإصلاح. ففي فرنسا، كانت التوترات بين الكاثوليك والبروتستانت (الهوغونوت) تتصاعد، بينما كانت الإمبراطورية الرومانية المقدسة قد شهدت بالفعل صراعات دينية كبرى أضعفتها. في الوقت نفسه، كانت إسبانيا تواجه تحديات خاصة بها، بما في ذلك احتمال اندلاع ثورة في هولندا الإسبانية، التي كانت جزءًا حيويًا من إمبراطوريتها. هذه الضغوط الداخلية والخارجية أجبرت القوى المتحاربة على البحث عن حل دبلوماسي للصراع الطويل.
كانت النتيجة توقيع سلام كاتو-كامبريسيس عام 1559، الذي شكل نهاية لهذه السلسلة الطويلة من الحروب. بموجب هذه المعاهدة، طُردت فرنسا إلى حد كبير من شمال إيطاليا، منهيةً فعليًا أحلامها في الهيمنة على شبه الجزيرة. في المقابل، تركزت سلطة إسبانيا وتأكدت كقوة مهيمنة في إيطاليا، حيث سيطرت على مملكة نابولي وصقلية في الجنوب، بالإضافة إلى دوقية ميلانو الإستراتيجية في الشمال. وبذلك، رسخ سلام كاتو-كامبريسيس هيمنة سلالة هابسبورغ الإسبانية على معظم إيطاليا، وشكل بداية حقبة جديدة من النفوذ الإسباني في المنطقة استمرت لأكثر من قرن ونصف.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
- ما هي الحروب الإيطالية؟
- هي سلسلة من النزاعات العسكرية التي دارت في شبه الجزيرة الإيطالية بين عامي 1494 و1559، وكانت بشكل أساسي صراعًا للسيطرة على إيطاليا بين ملوك سلالة فالوا الفرنسية وسلالة هابسبورغ الحاكمة لإسبانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة.
- من هم الأطراف الرئيسية في هذه الحروب؟
- الأطراف الرئيسية كانت فرنسا (سلالة فالوا) من جهة، وإسبانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة (سلالة هابسبورغ) من جهة أخرى. كما شاركت دول المدن الإيطالية مثل ميلانو والبندقية في هذه الصراعات، إضافة إلى إنجلترا والإمبراطورية العثمانية في فترات متقطعة.
- ما هي الأسباب الرئيسية لاندلاع الحروب الإيطالية؟
- الأسباب الرئيسية تشمل انهيار توازن القوى في إيطاليا بعد وفاة لورنزو دي ميديشي، وطموحات لودوفيكو سفورزا، ورغبة ملوك فرنسا في بسط نفوذهم في إيطاليا، خاصة بعد غزو تشارلز الثامن لنابولي، مما أثار رد فعل من القوى الأوروبية الأخرى مثل إسبانيا والإمبراطورية الرومانية المقدسة.
- ما هي أهم التغييرات العسكرية التي حدثت خلال هذه الحروب؟
- شهدت الحروب الإيطالية تحولاً في أساليب الحرب، منها الاستخدام الواسع للقربينة (المسدس)، والتحسينات الكبيرة في مدفعية الحصار، مما أدى إلى تراجع دور الفرسان الثقيلة وزيادة أهمية المشاة.
- ما هو سلام كاتو-كامبريسيس وما هي نتائجه؟
- هو معاهدة سلام وُقعت عام 1559 أنهت الحروب الإيطالية. نتج عنها طرد فرنسا من شمال إيطاليا إلى حد كبير، وتأسيس إسبانيا (سلالة هابسبورغ) كقوة مهيمنة في إيطاليا، مسيطرة على نابولي وصقلية وميلانو.
- لماذا كانت إيطاليا مسرحًا لهذه الحروب؟
- كانت إيطاليا غنية اقتصاديًا وثقافيًا، لكنها كانت مقسمة سياسيًا إلى دول مدن وممالك صغيرة ومتنافسة. هذا الافتقار إلى الوحدة جعلها هدفًا مغريًا للقوى الأوروبية الكبرى التي كانت تسعى للهيمنة الإقليمية والقارية.