في الأيام القاتمة لكانون الثاني/يناير 1945، ومع اقتراب الحرب العالمية الثانية من فصلها الأخير، شن الجيش الأحمر السوفيتي عملية عسكرية ضخمة وحاسمة على الجبهة الشرقية للمسرح الأوروبي. عُرفت هذه العملية باسم هجوم فيستولا-أودر (بالروسية: Висло-Одерская операция)، وكانت بمثابة ضربة قاصمة للدفاعات الألمانية، مهدت الطريق للسقوط النهائي لألمانيا النازية. كانت هذه العملية نموذجاً للتخطيط العسكري السوفيتي الواسع النطاق، وسرعتها المذهلة، وقوتها التدميرية.
مقدمة: شرارة الهجوم نحو قلب الرايخ الثالث
مع بداية عام 1945، كان المشهد على الجبهة الشرقية يوحي بأن النهاية باتت وشيكة. كانت القوات الألمانية قد استنزفت إلى حد كبير بعد سنوات من القتال الضاري، بينما كان الجيش الأحمر، على الرغم من خسائره الفادحة، يتمتع بزخم معنوي ومادي هائل. كان الهدف من هجوم فيستولا-أودر هو اختراق الخطوط الألمانية في بولندا المحتلة، والقضاء على التواجد الألماني هناك، وفتح الطريق مباشرة نحو برلين، عاصمة الرايخ الثالث. كانت العملية تمثل تتويجاً لسلسلة من الانتصارات السوفيتية التي بدأت تدفع الألمان إلى الخلف بلا هوادة منذ معركة ستالينغراد.
الخلفية الاستراتيجية والمعركة الوشيكة
تمركزت القوات الألمانية، وبالتحديد المجموعة الأولى للجيش الألماني (Heeresgruppe A)، تحت قيادة الكولونيل جنرال يوزف هاربه (الذي سرعان ما استُبدل بالكولونيل جنرال فرديناند شورنر)، على طول نهر فيستولا، محاولةً يائسةً إقامة خط دفاع أخير. لكن هذه القوات كانت منهكة، وتعاني من نقص حاد في الجنود والمعدات. في المقابل، حشد الجيش الأحمر قوة ضاربة لا مثيل لها، تجاوزت القوات الألمانية بخمسة إلى واحد في الجنود، وبتفوق أكبر بكثير في الدبابات والمدفعية والطائرات. كانت الاستعدادات السوفيتية للهجوم شاملة وسرية، وشملت تجميعاً هائلاً للقوات والعتاد حول عدد من رؤوس الجسور الرئيسية التي كان الجيش الأحمر قد أقامها بعناية على الضفة الغربية لنهر فيستولا في الأشهر السابقة، مثل رؤوس جسور ماغنوسيف وبولاوي.
انطلاق العملية: القوة السوفيتية الكاسحة
في 12 يناير 1945، انطلقت الشرارة الأولى لهجوم فيستولا-أودر بهجوم مدفعي هائل وغير مسبوق، أعلن عن بداية واحدة من أكبر العمليات الهجومية في تاريخ الحرب. استهدف هذا القصف مواقع العدو بلا هوادة، ممهداً الطريق لقوات المشاة والدروع السوفيتية للاجتياح.
القيادة والتخطيط المحكم
قاد هذا الهجوم الضخم جبهتان سوفيتيتان رئيسيتان: الجبهة البيلاروسية الأولى، تحت قيادة المارشال غيورغي جوكوف، الذي كان يعتبر أحد أبرز القادة العسكريين السوفيت، والجبهة الأوكرانية الأولى، بقيادة المارشال إيفان كونيف، المعروف ببراعته في قيادة الوحدات المدرعة. كل قائد منهما كان مسؤولاً عن محور رئيسي في الهجوم، وقد عملا بتنسيق لضمان تحقيق أقصى قدر من الاختراق والتطويق.
انهيار الدفاعات الألمانية
كانت الدفاعات الألمانية في غاية الضعف. مع التفوق العددي والنوعي السوفيتي، انهار الخط الأمامي الألماني بسرعة مذهلة. استطاعت القوات السوفيتية اختراق دفاعات "الموقع الألماني" (Ostwall) بسرعة خاطفة، محولةً الدفاع المنظم إلى فوضى عارمة. كانت سرعة تقدم الجيش الأحمر مذهلة، حيث اجتاحت وحداته المدرعة فرق المشاة الألمانية، وتركت وراءها جيوباً من المقاومة تم التعامل معها لاحقاً.
تحرير المدن المحتلة ومصير السجناء
خلال أيام قليلة، حقق الجيش الأحمر تقدماً استراتيجياً هائلاً، واستولى على مدن بولندية رئيسية: كانت وارسو، العاصمة المدمرة، أولى المدن التي تحررت، تبعتها كراكوف التاريخية التي نجت من التدمير بفضل سرعة التقدم السوفيتي، ثم مدينة بوزنان التي شهدت مقاومة ألمانية شرسة ومحاصرة طويلة. تزامن هذا التقدم السريع مع عمليات إخلاء مرعبة لمعسكرات الاعتقال النازية من قبل القوات الألمانية، التي أرسلت السجناء في "مسيرات الموت" القاسية نحو الغرب، محاولةً إخفاء جرائمها المروعة. في الوقت نفسه، بدأت أعداد كبيرة من الألمان العرقيين في هذه المناطق بالفرار غرباً، خشيةً من تقدم الجيش الأحمر وانتقامه المتوقع.
الوصول إلى الأودر والقرار الصعب
في غضون ما يزيد قليلاً عن أسبوعين، كانت القوات السوفيتية قد حققت تقدماً مذهلاً بلغ حوالي 300 ميل (483 كم)، من نهر فيستولا إلى نهر أودر. كانت هذه المسافة تعني أن الجيش الأحمر أصبح على بعد 43 ميلاً (69 كم) فقط من برلين، التي كانت في تلك اللحظة بلا حماية تذكر. كانت الطريق إلى العاصمة الألمانية مفتوحة على مصراعيها، وأصبح شبح الاستسلام يلوح في الأفق.
ومع ذلك، وفي قرار استراتيجي حاسم، أمر المارشال جوكوف بوقف التقدم. لم يكن هذا القرار نابعاً من ضعف، بل من ضرورة عسكرية. فقد كانت خطوط الإمداد السوفيتية قد امتدت بشكل مفرط، مما جعل عملية التزود بالوقود والذخيرة والإمدادات أمراً صعباً ومعرضاً للخطر. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك مقاومة ألمانية مستمرة وشرسة على جناحه الشمالي، خاصة في منطقة بوميرانيا وشرق بروسيا، والتي كان لا بد من تأمينها قبل المضي قدماً نحو قلب ألمانيا. كان استمرار التقدم في ظل هذه الظروف يعني تعريض الأجنحة السوفيتية لهجمات مضادة خطيرة قد تهدد المكاسب التي تحققت. وعليه، كان لا بد من تأجيل الهجوم النهائي على برلين حتى شهر أبريل، لإعادة تنظيم القوات وتأمين الأجنحة وتعزيز الإمدادات.
أهمية الهجوم وتأثيره الدائم
كان هجوم فيستولا-أودر انتصاراً سوفيتياً ساحقاً غيّر مجرى الحرب على الجبهة الشرقية بشكل جذري. لقد دمر هذا الهجوم الجزء الأكبر من القوة العسكرية الألمانية في الشرق، وقضى على أمل ألمانيا في أي دفاع منظم. لم يفتح الطريق إلى برلين فحسب، بل أظهر أيضاً القدرة التدميرية الهائلة للجيش الأحمر، وقدرته على شن عمليات واسعة النطاق بسرعة وكفاءة مذهلتين. لقد مهد هذا الهجوم الطريق لمعركة برلين النهائية التي أنهت الحرب في أوروبا، ومهّد لتشكيل المشهد السياسي في أوروبا ما بعد الحرب.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
- ما هو الهدف الأساسي لهجوم فيستولا-أودر؟
- كان الهدف الأساسي هو تدمير القوات الألمانية في بولندا المحتلة، وفتح طريق مباشر نحو برلين، عاصمة ألمانيا النازية، وإنهاء الحرب العالمية الثانية في أوروبا.
- متى وقع هجوم فيستولا-أودر؟
- بدأ الهجوم في 12 يناير 1945 واستمر لمدة تزيد قليلاً عن أسبوعين.
- من هم القادة الرئيسيون في هذه العملية؟
- قاد الجبهة البيلاروسية الأولى المارشال غيورغي جوكوف، بينما قاد الجبهة الأوكرانية الأولى المارشال إيفان كونيف. أما القوات الألمانية، فكان يقودها في البداية الكولونيل جنرال يوزف هاربه، ثم الكولونيل جنرال فرديناند شورنر.
- ما هي المدن الرئيسية التي استولى عليها الجيش الأحمر خلال الهجوم؟
- استولى الجيش الأحمر على وارسو وكراكوف وبوزنان، وعدد آخر من المدن والبلدات في بولندا.
- لماذا توقف الجيش الأحمر عن التقدم نحو برلين رغم اقترابه الشديد منها؟
- توقف التقدم بسبب تمدد خطوط الإمداد السوفيتية بشكل مفرط، وضرورة تأمين الأجنحة الشمالية من المقاومة الألمانية المستمرة في مناطق مثل بوميرانيا، وكذلك لإعادة تجميع القوات والإعداد لهجوم نهائي قوي ومنظم على برلين.
- ما هو مدى التقدم الذي حققه الجيش الأحمر وكم كانت المسافة المتبقية لبرلين؟
- تقدم الجيش الأحمر حوالي 300 ميل (483 كم) في ما يزيد قليلاً عن أسبوعين، ووصل إلى مسافة 43 ميلاً (69 كم) فقط من برلين.
- ماذا حدث لسجناء معسكرات الاعتقال خلال الهجوم؟
- أخلت القوات الألمانية معسكرات الاعتقال، وأرسلت السجناء في "مسيرات الموت" القاسية نحو الغرب، في محاولة لإخفاء الأدلة على الفظائع المرتكبة قبل وصول القوات السوفيتية.

English
español
français
português
русский
العربية
简体中文 