يُعد الحاخام إسحاق بن سليمان لوريا اشكنازي، المعروف في الأوساط اليهودية باسم "الآري" (بالعبرية: יִצְחָק בן שלמה לוּרְיָא אשכנזי)، والذي عاش بين عامي 1534 و25 يوليو 1572، شخصية محورية غيرت مسار الفكر الصوفي اليهودي إلى الأبد. هو ليس مجرد حاخام أو صوفي، بل يُعتبر الأب الروحي لمدرسة الكابالا الحديثة، التي عُرفت باسم "الكابالا اللوريانية" نسبةً إليه.
في مجتمع صفد النابض بالحياة في منطقة الجليل، التي كانت آنذاك جزءًا من سوريا العثمانية وأصبحت الآن ضمن دولة إسرائيل، بزغ نجم الآري كقائد روحي ومفكر عميق. وقد حاز على مكانة رفيعة جعلت أتباعه يلقبونه بـ "الآري هاكادوش" (الآري المقدس) أو "الأريزال"، وهي اختصار لعبارة "الآري زخرونو ليفراخا" التي تعني "الآري، ذكراه مباركة"، تعبيرًا عن عميق التبجيل والتقدير لدوره الاستثنائي.
صفد: مركز إشعاع الكابالا في القرن السادس عشر
لم يكن ظهور الآري في صفد مجرد صدفة، بل كان جزءًا من حركة فكرية ودينية مزدهرة شهدتها هذه المدينة الجليلية في القرن السادس عشر. كانت صفد في تلك الحقبة بمثابة عاصمة روحية للعالم اليهودي، حيث اجتذبت عددًا كبيرًا من الحاخامات والعلماء والصوفيين الذين سعوا إلى إحياء الروحانية اليهودية بعد طرد اليهود من إسبانيا عام 1492. كان هذا التجمع الفريد من المفكرين المرموقين، بمن فيهم الحاخام موشيه كورديڤيرو (الرم"ك) الذي سبقه في القيادة الروحية لصفد، يهيئ الأرضية لظهور نظام صوفي جديد.
في هذا المناخ الفكري الخصب، وصل الحاخام إسحاق لوريا إلى صفد حوالي عام 1569، قادمًا من مصر. وعلى الرغم من الفترة القصيرة التي قضاها هناك، إلا أنه ترك بصمة لا تُمحى، وأرسى أسس منهج كابالي جديد سرعان ما أصبح المهيمن.
تعاليم الآري: جوهر الكابالا اللوريانية
تُعرف تعاليم الحاخام إسحاق لوريا مجتمعةً باسم "الكابالا اللوريانية"، وهي مدرسة فكرية عميقة أعادت تعريف الفهم اليهودي للمكانة الإلهية والخليقة والهدف الكوني. على عكس المدارس الكابالية السابقة التي ركزت بشكل كبير على فهم بنية العوالم الإلهية، قدم الآري رؤية درامية ومفصلة لعملية الخلق التي تفسر وجود الشر والنقص في العالم.
من أبرز مفاهيم الكابالا اللوريانية:
- "التسيمتزوم" (التقليص/الانكماش): الفكرة الثورية بأن الله، الذي هو "كل في الكل"، قام بتقليص ذاته إلهيًا لإفساح المجال لخلق العوالم. هذا الانكماش لم يكن جسديًا بل روحيًا، وسمح بظهور مفهوم "الفراغ" الذي يمكن للعالم أن يوجد فيه.
- "شفيرات هكيليم" (تحطم الأوعية): بعد التسيمتزوم، انبعث نور إلهي هائل. ولكن الأوعية الكونية (كيليم) التي كان من المفترض أن تحتوي هذا النور كانت ضعيفة للغاية وتحطمت تحت وطأته، مما أدى إلى انتشار "شظايا" من النور الإلهي وتناثرها في العوالم السفلية، وخلقت ما يُعرف بـ "القشور" أو "الكيليبوت" التي تُرمز للشر والنقص.
- "تيكون أولام" (إصلاح العالم): الهدف النهائي للكابالا اللوريانية هو إصلاح هذه الشظايا المتناثرة من النور الإلهي ورفعها. هذا الإصلاح يتحقق من خلال الأعمال الصالحة، دراسة التوراة، والالتزام بالوصايا (الميتزفوت)، والنوايا الصادقة (الكافانوت). كل عمل إيجابي يقوم به الإنسان يساهم في جمع هذه الشظايا وإعادتها إلى مصدرها الإلهي، وبالتالي استعادة الانسجام الكوني.
القوة في الكلمة المنطوقة: تعاليم الآري وتلاميذه
على الرغم من تأثيره الهائل، فإن مساهمة الحاخام لوريا المباشرة في الأدب الكابالي كانت محدودة للغاية؛ إذ لم يكتب سوى عدد قليل من القصائد، أشهرها قصيدة "أزامي بشفاخ". لكن شهرته الروحية وقوة شخصيته الجذابة أدت إلى تبجيل واسع النطاق لسلطته، وتحول تلاميذه إلى أقلام تسجل علمه الشفوي. كان أبرز تلاميذه الحاخام حاييم فيتال، الذي كرس حياته لتدوين وحفظ تعاليم أستاذه في مؤلفات ضخمة مثل "عيتس حاييم" (شجرة الحياة) و"شعار هاكافانوت" (بوابة النوايا). هذه الأعمال التي جمعها ونظمها التلاميذ هي التي شكلت الأساس لانتشار الكابالا اللوريانية في جميع أنحاء العالم اليهودي.
كانت منهجية الآري تركز على الشرح الشفهي والتفسير العميق للأسرار الكامنة وراء الطقوس والصلوات اليهودية، مما أكسبه احترامًا غير مسبوق وجعل كل عادة يمارسها محط دراسة وفحص. وقد تم قبول العديد من عاداته وتعاليمه، حتى تلك التي اختلفت عن الممارسات السابقة، مما يدل على عمق تأثيره وقبول سلطته الروحية المطلقة.
الإرث الخالد: تأثير الآري على الفكر والممارسة اليهودية
لم تقتصر تعاليم الآري على كونها مجرد مدرسة فكرية؛ بل تغلغلت بعمق في نسيج الحياة اليهودية، وأثرت على طقوس الصلاة، والفهم الميتافيزيقي للوصايا، وحتى على الممارسات اليومية. أصبحت "النوايا" (الكافانوت) الصوفية التي وضعها الآري جزءًا لا يتجزأ من صلوات الكاباليين، وساهمت رؤيته في "تيكون أولام" في تعزيز الشعور بالمسؤولية الفردية والجماعية تجاه إصلاح العالم ورفع شظايا القداسة. كما أثرت الكابالا اللوريانية بشكل كبير على حركة الحسيدية التي ظهرت في القرن الثامن عشر، مشكلةً عمودًا فقريًا للاهوت الحسيدي.
إلى يومنا هذا، لا يزال فكر الآري يمثل حجر الزاوية في دراسة الكابالا ويُستشهد به كمرجع أساسي لأي شخص يسعى لاستكشاف الأبعاد الصوفية لليهودية. إن إرثه لا يزال حيًا ومؤثرًا في الممارسات الروحية والمعتقدات الدينية، مما يجعله واحدًا من أهم الشخصيات في تاريخ الفكر اليهودي.
وفاته ومثواه الأخير
في أوج عطائه الروحي، توفي الحاخام إسحاق لوريا في صفد بتاريخ 25 يوليو 1572، في سن مبكرة نسبيًا، ودُفن في المقبرة اليهودية القديمة بالمدينة التي أضحت مركزًا لتعاليمه. ولا يزال قبره في صفد حتى يومنا هذا مزارًا يحج إليه الآلاف من اليهود من جميع أنحاء العالم، لطلب البركة والصلاة، وتخليدًا لذكرى "الآري المقدس" الذي شكل بعمق الروحانية اليهودية وترك إرثًا لا يمحوه الزمن.
تكريمًا لذكراه، بُنيت العديد من المؤسسات والمواقع في صفد خلال أواخر القرن السادس عشر وما تلاها، منها كنيس الآري الأشكنازي وكنيس الآري السفاردي، مما يعكس مدى التقدير والتجليل الذي حظي به وما زال يحظى به بين أبناء شعبه.
الأسئلة الشائعة حول الحاخام إسحاق لوريا (الآري)
- من هو الحاخام إسحاق لوريا (الآري)؟
- هو حاخام وصوفي يهودي بارز عاش في القرن السادس عشر في صفد (الجليل، سوريا العثمانية آنذاك، إسرائيل حاليًا). يُعتبر الأب الروحي للكابالا الحديثة المعروفة باسم "الكابالا اللوريانية"، وقد أثرت تعاليمه بشكل عميق على الفكر والممارسة اليهودية.
- ما هي الكابالا اللوريانية؟
- هي مدرسة فكرية صوفية يهودية أسسها الحاخام إسحاق لوريا. تركز على مفاهيم مثل "التسيمتزوم" (التقليص الإلهي)، "شفيرات هكيليم" (تحطم الأوعية)، و"تيكون أولام" (إصلاح العالم). تفسر هذه المفاهيم عملية الخلق، وجود الشر، والمسؤولية البشرية في استعادة الانسجام الكوني.
- لماذا يُلقب بـ "الآري" أو "الأريزال"؟
- "الآري" هي اختصار لعبارة "إلوهي رابي إسحاق" (معلمي الإلهي إسحاق)، وتعني أيضًا "الأسد" بالعبرية، في إشارة إلى قوته الروحية وعمق تعاليمه. أما "الأريزال" فهي اختصار لـ "الآري، زخرونو ليفراخا" التي تعني "الآري، ذكراه مباركة"، وهو لقب تشريفي يُستخدم للدلالة على قدسيته ومكانته الرفيعة.
- ما هي أهمية مدينة صفد في سيرة الآري؟
- كانت صفد في القرن السادس عشر مركزًا روحيًا وثقافيًا مزدهرًا للعالم اليهودي، واجتذبت العديد من الصوفيين والعلماء. قدم الآري إلى صفد حوالي عام 1569، وعلى الرغم من الفترة القصيرة التي قضاها هناك، إلا أنها كانت المكان الذي طور فيه تعاليمه الكابالية ونقلها إلى تلاميذه، مما جعلها منارة للكابالا اللوريانية.
- هل كتب الحاخام لوريا الكثير من الكتب بنفسه؟
- مساهمته الأدبية المباشرة كانت محدودة للغاية؛ إذ كتب فقط عددًا قليلاً من القصائد. لكن تعاليمه الشفوية كانت عميقة ومؤثرة، وقام تلاميذه، وعلى رأسهم الحاخام حاييم فيتال، بتدوين هذه التعاليم وحفظها في مؤلفات ضخمة أصبحت هي الأساس للكابالا اللوريانية.
- ما هو الإرث الدائم للآري؟
- إرثه يتمثل في مدرسة الكابالا اللوريانية التي أثرت بعمق على الفكر اليهودي، وغيرت فهمًا لعملية الخلق، الشر، والمسؤولية البشرية. كما أن تعاليمه حول "تيكون أولام" و"الكافانوت" (النوايا الصوفية) قد تغلغلت في الممارسات الدينية، وأثرت بشكل كبير على حركة الحسيدية، ولا يزال فكره يُدرس ويُمارس حتى اليوم.

English
español
français
português
русский
العربية
简体中文 