في صيف عام 1943، شهدت السهول الشاسعة لروسيا الغربية واحدة من أضخم وأشرس المعارك في تاريخ البشرية، وهي معركة كورسك. كان هذا الاشتباك الملحمي، الذي دار رحاه بين القوات الألمانية والسوفيتية على الجبهة الشرقية، بالقرب من مدينة كورسك (التي تبعد حوالي 450 كيلومترًا أو 280 ميلًا جنوب غرب موسكو) في الاتحاد السوفيتي، في شهري يوليو وأغسطس 1943، نقطة تحول حاسمة في الحرب العالمية الثانية. لم تكن مجرد معركة، بل كانت صراعًا هائلًا للمدرعات والقوى البشرية، جسدت إصرارًا لا يتزعزع من كلا الجانبين، وأعادت تشكيل ميزان القوى الاستراتيجي لبقية الحرب.

الأهداف الألمانية وخطة "عملية القلعة"

بدأت المعركة بإطلاق الهجوم الألماني الذي أطلق عليه اسم عملية القلعة (بالألمانية: Unternehmen Zitadelle) في الخامس من يوليو. كانت القيادة العليا الألمانية، بقيادة أدولف هتلر، تأمل في تحقيق نصر ساحق من شأنه أن يضعف الهجوم السوفيتي المحتمل لصيف عام 1943، ويقطع ويطوق القوات السوفيتية التي توقعوا تمركزها في نتوء كورسك البارز. كان نتوء كورسك، وهو جيب في خط الجبهة يبرز نحو الأراضي التي تسيطر عليها ألمانيا، مغريًا بشكل خاص لهجوم كماشة، حيث خطط الألمان لشن هجمات متزامنة من الشمال والجنوب للقضاء على هذا الجيب وتطويق القوات السوفيتية بداخله.

اعتقد هتلر أن انتصارًا حاسمًا هنا سيعيد تأكيد القوة العسكرية الألمانية ويرفع مكانته بين حلفائه المترددين (مثل إيطاليا والمجر ورومانيا)، الذين كان يشعر أنهم يفكرون في الانسحاب من الحرب. كان هناك أمل أيضًا في أسر أعداد كبيرة من الجنود السوفييت لاستخدامهم كعمال سخرة في مصانع الأسلحة الألمانية، في محاولة لتعزيز المجهود الحربي المتزايد لألمانيا.

استعدادات الدفاع السوفيتي وعمق الاستخبارات

على الرغم من التطلعات الألمانية، لم يكن السوفييت غافلين عن هذه النوايا. فبفضل معلومات استخباراتية حيوية، قدمتها جزئيًا اعتراضات توني للمخابرات البريطانية (نظام "ألترا" لفك التشفير)، كانت الحكومة السوفيتية على دراية مسبقة بالخطط الألمانية. قبل أشهر من إدراك أن الهجوم الألماني سيستهدف نتوء كورسك البارز، شرع السوفييت في بناء دفاعات عميقة ومتعددة الطبقات لم يسبق لها مثيل. تم تصميم هذه الدفاعات لتقويض رأس الحربة المدرعة الألمانية وتدميرها.

كان الألمان قد أجلوا هجومهم عدة مرات، في محاولة لحشد أقصى قدر ممكن من القوات والانتظار لوصول أسلحة جديدة ومتطورة مثل دبابات بانثر الثقيلة ومدمرات الدبابات فيرديناند. هذا التأجيل منح الجيش الأحمر السوفيتي وقتًا ثمينًا لبناء سلسلة من الأحزمة الدفاعية العميقة التي امتدت لعشرات الكيلومترات، وشملت حقول ألغام كثيفة، ومواقع مدفعية محصنة، وخنادق مضادة للدبابات، ومواقع للمشاة. كما تمكنوا من إنشاء قوة احتياطية ضخمة للهجمات المضادة، مما عكس استعدادًا استراتيجيًا لمواجهة التهديد الألماني.

مسار المعركة: اشتباكات ضارية وهجمات مضادة

الجبهة الشمالية والعملية "كوتوزوف"

في 5 يوليو، انطلق الهجوم الألماني بقوة هائلة، لكنه سرعان ما واجه دفاعات سوفيتية صلبة. بعد أن توقف الهجوم الألماني على الجانب الشمالي من المنطقة البارزة، في 12 يوليو، شن السوفييت هجومهم الاستراتيجي الخاص بهم، عملية كوتوزوف (بالروسية: Кутузов). استهدفت هذه العملية مؤخرة القوات الألمانية على نفس الجانب، مما أربك خططهم وأجبرهم على تحويل الموارد لمواجهة هذا التهديد الجديد.

الجبهة الجنوبية ومعركة بروخوروفكا

على الجانب الجنوبي، اشتدت وتيرة القتال بشكل خاص. في 12 يوليو، شن السوفييت أيضًا هجمات مضادة قوية، أدت إحداها إلى اشتباك ضخم للمدرعات عُرف باسم معركة بروخوروفكا. تُعد هذه المعركة واحدة من أكبر الاشتباكات الدبابات في التاريخ العسكري، حيث اشتبكت مئات الدبابات من كلا الجانبين في قتال وحشي ومروع، مما حول السهول إلى مقبرة للمدرعات. على الرغم من الخسائر الفادحة التي تكبدها الجانبان، إلا أن السوفييت نجحوا في منع الاختراق الألماني الحاسم.

المرحلة الثانية: عملية "القائد روميانتسيف"

في 3 أغسطس، بدأ السوفييت المرحلة الثانية من عملية كورسك الهجومية الاستراتيجية بإطلاق عملية القائد روميانتسيف (بالروسية: Полководец Румянцев). استهدفت هذه العملية القوات الألمانية على الجانب الجنوبي من المنطقة البارزة، سعيًا لإكمال الضغط على القوات الألمانية وطردهم من الأراضي المحررة حديثًا.

تأثير الغزو المتحالف لصقلية ونتائج المعركة

في خضم هذه المعركة الضارية، حدث تطور حاسم على مسرح آخر من الحرب. فمع بدء غزو الحلفاء لجزيرة صقلية (عملية هاسكي) في يوليو 1943، اضطر أدولف هتلر إلى اتخاذ قرار صعب. كان عليه تحويل قواته المدربة في فرنسا، والتي كان من المفترض أن تكون احتياطيًا استراتيجيًا للجبهة الشرقية، لمواجهة التهديد المتحالف في البحر الأبيض المتوسط. هذا التحويل قلل بشكل كبير من القدرات الهجومية الألمانية في كورسك، وأجبر هتلر على إلغاء عملية القلعة بعد أسبوع واحد فقط من بدئها، لسحب القوات وإرسالها إلى إيطاليا.

كانت الخسائر التي تكبدتها ألمانيا فادحة في الأرواح والدبابات والمعدات، مما أثر بشكل لا رجعة فيه على قدرتها الهجومية على الجبهة الشرقية. لقد ضمنت هذه الهزيمة أن يتمتع الجيش الأحمر السوفيتي المنتصر بالمبادرة الاستراتيجية لما تبقى من الحرب. كانت معركة كورسك هي المرة الأولى في الحرب العالمية الثانية التي يتم فيها إيقاف هجوم استراتيجي ألماني قبل أن يتمكن من اختراق دفاعات العدو والتوغل في أعماقها الاستراتيجية. على الرغم من أن الجيش الأحمر كان قد حقق نجاحات في هجماته الشتوية سابقًا (مثل معركة ستالينجراد)، إلا أن هجماتهم المضادة بعد الهجوم الألماني على كورسك كانت أولى هجماتهم الصيفية الناجحة على نطاق واسع في الحرب، مما أكد قدرتهم على شن عمليات هجومية كبيرة في جميع الظروف الفصلية. شكلت كورسك نقطة اللاعودة التي دفعت الجبهة الشرقية نحو الهزيمة الألمانية الحتمية.

الأسئلة الشائعة حول معركة كورسك

ما هو الهدف الرئيسي لـ "عملية القلعة"؟

كان الهدف الرئيسي لعملية القلعة هو القضاء على نتوء كورسك البارز الذي تحتله القوات السوفيتية من خلال شن هجمات متزامنة من الشمال والجنوب، بهدف تطويق القوات السوفيتية وتدميرها، وبالتالي إضعاف الهجوم السوفيتي المتوقع في صيف عام 1943 واستعادة المبادرة الاستراتيجية لألمانيا على الجبهة الشرقية.

كيف تمكن السوفييت من معرفة نوايا الهجوم الألماني؟

حصل السوفييت على معلومات استخباراتية قيمة بفضل اعتراضات نظام "ألترا" البريطاني، المعروفة بـ "اعتراضات توني". هذه المعلومات مكنتهم من الاستعداد المسبق للهجوم الألماني من خلال بناء دفاعات عميقة ومتعددة الطبقات وتجهيز قوات احتياطية ضخمة.

ما هي أهمية معركة بروخوروفكا؟

تُعد معركة بروخوروفكا جزءًا محوريًا من معركة كورسك، وهي واحدة من أكبر الاشتباكات الدبابات في التاريخ. على الرغم من الخسائر الفادحة من كلا الجانبين، فقد منعت القوات السوفيتية الاختراق الألماني الحاسم على الجبهة الجنوبية، مما ساهم بشكل كبير في إفشال الأهداف الألمانية لعملية القلعة.

لماذا ألغى هتلر الهجوم على كورسك مبكرًا؟

اضطر هتلر لإلغاء الهجوم الألماني على كورسك بعد أسبوع واحد فقط من بدئه بسبب بدء غزو الحلفاء لجزيرة صقلية (عملية هاسكي). كان عليه تحويل قواته الاحتياطية الاستراتيجية من الجبهة الشرقية إلى إيطاليا لمواجهة التهديد المتحالف في البحر الأبيض المتوسط، مما أثر بشكل كبير على قدرته على مواصلة الهجوم في كورسك.

ما هو التأثير الاستراتيجي لمعركة كورسك على مجريات الحرب العالمية الثانية؟

مثلت معركة كورسك نقطة تحول حاسمة في الحرب العالمية الثانية. فبعد الهزيمة الألمانية الثقيلة، فقدت ألمانيا المبادرة الاستراتيجية على الجبهة الشرقية بشكل دائم، ولم تعد قادرة على شن هجمات استراتيجية واسعة النطاق. وبدلاً من ذلك، انتقلت المبادرة إلى الجيش الأحمر السوفيتي، الذي حافظ عليها حتى نهاية الحرب، مما مهد الطريق لتقدمهم نحو الغرب.

هل تم استخدام أسلحة ألمانية جديدة في معركة كورسك؟

نعم، انتظر الألمان وصول دبابات جديدة ومتطورة مثل دبابات بانثر (Panther) ومدمرات الدبابات فيرديناند (Ferdinand) قبل إطلاق الهجوم. كان الهدف من هذه الأسلحة الجديدة هو منحهم ميزة حاسمة، ولكن تأخر وصولها كان أحد الأسباب التي أخرت بدء العملية وأعطت السوفييت مزيدًا من الوقت لبناء دفاعاتهم.