ويليام غروت: أسطورة الخماسي الحديث السويدي
يُعد ويليام أوسكار غيرنسي غروت (17 سبتمبر 1914 – 20 نوفمبر 2012) أحد أبرز الشخصيات في تاريخ الرياضة السويدية، حيث اشتهر بكونه بطلاً أولمبياً استثنائياً في رياضة الخماسي الحديث. لم يكن غروت مجرد رياضي فذ، بل كان رمزاً للعزيمة والمثابرة التي قادته إلى قمة المجد الأولمبي في دورة الألعاب الصيفية عام 1948 بلندن، حيث نال الميدالية الذهبية ببراعة وتفوق. وإلى جانب إنجازاته الرياضية المبهرة، كُرّم غروت في العام نفسه بجائزة سفينسكا داغبلاديت الذهبية المرموقة (Svenska Dagbladets Guldmedalj)، والتي تُعد أرفع وسام رياضي في السويد، تقديراً لأدائه المتميز وتألقه اللافت.
نشأة وتأثيرات مبكرة: من العمارة إلى الجيش
ولد ويليام غروت لعائلة ذات خلفية مرموقة ومتنوعة؛ فوالده، توربين غروت، كان مهندساً معمارياً شهيراً ترك بصمة تاريخية من خلال تصميمه للاستاد الأولمبي في ستوكهولم الذي استضاف ألعاب عام 1912، وهو معلم معماري لا يزال شاهداً على عبقريته. أما والدته، مارغيت تورسل، فكانت ابنة المغنية الأوبرالية النرويجية المعروفة أولفين مو، مما يظهر امتلاك ويليام لجذور عائلية تجمع بين الهندسة والفن.
شهد عام 1932 نقطة تحول حاسمة في حياة غروت الشاب. ففي الشهر الذي تأهل فيه كطالب في مايو، تعرض والده لخسائر مالية فادحة نتيجة لانهيار كروغر، وهي فضيحة مالية كبرى هزت السويد والعالم آنذاك وسببت تداعيات اقتصادية واسعة. كان حلم غروت الأول هو دراسة الطب، وقد حاز بالفعل على مقعد في كلية بيمبروك بجامعة كامبريدج العريقة، لكن التداعيات المالية لانهيار السوق أحالت بينه وبين تحقيق هذا الطموح. دفعت هذه الظروف غروت نحو مسار مهني مختلف، فاختار الالتحاق بالجيش. لم يكن هذا الخيار مجرد بديل، بل كان قراراً عملياً حيث كان التدريب العسكري مجانياً، والأهم من ذلك أنه أتاح له فرصة ثمينة لتحقيق رغبته العميقة في خدمة وطنه والمساهمة في الدفاع عنه.
سنوات السباحة: موهبة فطرية وشغف رياضي
على الرغم من أن والده، توربين غروت، كان بطلاً سويدياً في التنس في مطلع القرن، إلا أن ويليام لم يسلك نفس الدرب الرياضي. فقد كانت موهبته الفطرية وشغفه الحقيقي يكمنان في السباحة. برزت هذه الموهبة مبكراً، ففي عام 1928، سجل غروت رقماً قياسياً جديداً للناشئين في سباق 100 متر سباحة حرة. ولم يتوقف طموحه عند هذا الحد، بل استمر في حصد سلسلة من البطولات السويدية في سباقات المسافات المختلفة، ليبرهن على تفوقه في 200 متر و 400 متر و 1500 متر سباحة حرة، مما رسخ مكانته كأحد أبرز السباحين في السويد خلال تلك الفترة.
من برلين إلى الخماسي الحديث: بداية التحول
في عام 1936، شارك ويليام غروت كعضو في فريق السباحة السويدي خلال دورة الألعاب الأولمبية في برلين. هناك، شهد حدثاً ألهب حماسه وغير مساره الرياضي: فوز الألماني جوتهارد هاندريك بالميدالية الذهبية في الخماسي الحديث. كانت رؤية هاندريك يتوج بهذا اللقب بمثابة شرارة ألهمت غروت للتوجه نحو هذه الرياضة المتكاملة، خاصة وأن الميداليات الذهبية في الخماسي الحديث كانت قبل ذلك التاريخ حكراً على الرياضيين السويديين دون غيرهم. فقد توج بالذهب كل من ليليووك في ستوكهولم (1912)، وديرسن في أنتويرب (1920)، وليندمان في باريس (1924)، وثوفيلت في أمستردام (1928)، وأوكسنستيرنا في لوس أنجلوس (1932). هذا الإرث السويدي العريق أضفى بعداً إضافياً على طموح غروت في إحياء هذا التفوق.
الجيش والتدريب المكثف: صقل المهارات لخمسة تخصصات
كانت مسيرة ويليام غروت المهنية كقبطان في المدفعية السويدية عاملاً حاسماً في صقل مهاراته وتطوير قدراته في تخصصات الخماسي الحديث الخمسة. فقد أتاح له العمل في الجيش بيئة مثالية وفرصاً لا تقدر بثمن للتدريب المنتظم والمكثف. استغل غروت كل فرصة متاحة له بحكمة وذكاء: فكان يمارس الجري الريفي وركوب الخيل والسباحة كل يوم، بينما خصص ثلاثة أيام في الأسبوع للتدريب على المبارزة، ولم يغفل عن إطلاق النار الذي كان يتدرب عليه خلال فترات استراحة الغداء اليومية. هذا الانضباط الصارم والالتزام اللامحدود بالتدريب الشامل هو ما جعله جاهزاً للتحديات الكبرى في رياضة تتطلب مزيجاً فريداً من القوة البدنية والذهنية والدقة.
"بروفة" سانت موريتز: التحضير للأولمبياد الصيفي
في فبراير 1948، وقبل أشهر قليلة من دورة الألعاب الصيفية، شارك ويليام غروت في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي استضافتها سانت موريتز بسويسرا. لم يكن غروت هناك للمنافسة في رياضاته المعتادة، بل كان عضواً في الفريق السويدي للخماسي الشتوي، وهو حدث استعراضي فريد يجمع بين التزلج على المنحدرات، والتزلج الريفي على الثلج، والرماية، والمبارزة، وركوب الخيل. كان زملاؤه في هذا الفريق هم كلاس إغنيل وغوستاف ليند وبيرتيل هاسي. وفي هذا الحدث، أظهر الفريق السويدي تميزاً ملحوظاً، حيث فاز ليند بالميدالية الذهبية، بينما حصد غروت الميدالية الفضية. اعتبر غروت مشاركته في سانت موريتز بمثابة "بروفة" قيمة واستعداد مثالي لدورة الألعاب الأولمبية الصيفية التي كانت مقررة في لندن في العام نفسه، مما منحه دفعة معنوية وتجربة تنافسية حيوية.
المجد الأولمبي في لندن 1948: انتصار تاريخي
وصل ويليام غروت إلى لندن عام 1948 وهو في قمة جاهزيته البدنية والذهنية، متمتعاً بتدريب مكثف وتجربة "بروفة" ناجحة في سانت موريتز. استضافت منطقة ألدرشوت البريطانية فعاليات الخماسي الحديث الأولمبية، ورافقه في الفريق السويدي زميلاه غوستا غاردين وسونه فيهلين.
حظي غروت بعامل مهم من الحظ في سحب القرعة لحصان جيد اسمه "كلاريان بوي" لحدث ركوب الخيل، وهو ما يعد عنصراً حاسماً في رياضة الخماسي الحديث حيث يمكن لجودة الحصان أن تؤثر بشكل كبير على الأداء. بفضل هذا التوفيق وإعداده المتكامل، تمكن غروت من تقديم أفضل أداء تنافسي له على الإطلاق. في تلك الحقبة، كانت نتائج الخماسي الحديث تُحسب بناءً على الترتيب في كل حدث (كلما كان الترتيب أقل، كان ذلك أفضل)، وقد حقق غروت نتيجة إجمالية مذهلة بلغت 1 + 1 + 5 + 1 + 8 = 16 نقطة. تُعتبر هذه النتيجة رقماً قياسياً لم يُكسر بعد في طريقة احتساب النقاط تلك، وتوضح مدى هيمنته حيث جاء في المركز الأول في ثلاثة أحداث، وفي المركز الخامس في حدث واحد، والثامن في حدث آخر.
بهذا الأداء الاستثنائي، تُوج ويليام غروت بالميدالية الذهبية الأولمبية في الخماسي الحديث، مؤكداً تفوقه المطلق ومحققاً حلماً طالما راوده. ولم تقتصر الإنجازات على غروت وحده، فقد فاز زميله غاردين بالميدالية البرونزية، مما عزز مكانة السويد التي حصدت ما مجموعه 17 ميدالية ذهبية أولمبية من ألعاب لندن. وفي تقدير آخر لهذا الإنجاز التاريخي، نال غروت في العام نفسه جائزة "سفينسكا داغبلاديت للإنجاز" (Svenska Dagbladets Guldmedalj) المرموقة، لتضاف إلى قائمة تكريماته.
بعد المنافسة: إرث القيادة والإدارة الرياضية
بعد انتصاره المذهل في دورة الألعاب الأولمبية بلندن، قرر ويليام غروت إنهاء مسيرته التنافسية والانتقال إلى مرحلة جديدة من العطاء في عالم الرياضة. اتجه غروت نحو إدارة وتدريب الفريق السويدي للخماسي الحديث، حيث أثبت براعة في هذا المجال أيضاً. من بين أبرز إنجازاته كمدرب، تدريبه للاعب لارس هول، الذي سار على خطى غروت وفاز بميداليتين ذهبيتين أولمبيتين متتاليتين في هلسنكي عام 1952 وملبورن عام 1956، مما يؤكد استمرارية التفوق السويدي في هذه الرياضة بفضل إشراف غروت.
لم تتوقف مساهمات غروت عند التدريب، ففي عام 1960، انتخب أميناً عاماً للاتحاد الدولي للخماسي الحديث والبياتلون (UIPMB)، وهو منصب رفيع شغله لمدة 24 عاماً، مما يدل على نفوذه وتأثيره الكبير في الرياضة على المستوى الدولي. وفي العام نفسه، حظي بشرف حمل علم السويد في حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الصيفية لعام 1960، في لفتة تقدير لمسيرته الحافلة.
في أوقات فراغه، كان غروت يمارس رياضة الجولف بشغف، وعلى الرغم من أن إعاقته لم تنخفض أبداً إلى أقل من 12، إلا أن هذه الرياضة ظلت تمنحه متعة وسعادة كبيرتين في سنواته المتأخرة. وقد ظل مخلصاً لمبدأ رياضي حكيم تلقاه من أستاذه للرياضة في أكاديمية كارلبرغ العسكرية، الذي نصح طلابه الصغار بالعبارة الخالدة: "مارس الرياضة حتى يوم وفاتك، ولكن لا تدع الرياضة تكون موتك". نصيحة أخذها غروت على محمل الجد، وعاش بها طوال حياته، ليترك إرثاً غنياً لا يقتصر على الميداليات، بل يمتد ليشمل القيم الرياضية والقيادة الملهمة.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
- ما هو الخماسي الحديث؟
- الخماسي الحديث هو رياضة أولمبية تجمع بين خمسة تخصصات مختلفة مصممة لاختبار مهارات الجندي المثالي وهي: المبارزة (بالسيف)، السباحة (200 متر حرة)، الفروسية (قفز الحواجز)، الرماية (بمسدس ليزر)، والجري (3000 متر عبر الضاحية). وقد أنشأها البارون بيير دي كوبرتان، مؤسس الألعاب الأولمبية الحديثة، لتشمل المهارات المطلوبة من جندي خلف خطوط العدو.
- ما أهمية فوز ويليام غروت بالميدالية الذهبية في أولمبياد لندن 1948؟
- كان فوز غروت بالميدالية الذهبية في الخماسي الحديث عام 1948 ذا أهمية تاريخية لعدة أسباب. فقد أعاد السويد إلى قمة الهيمنة في هذه الرياضة بعد أن فاز بها ألماني في الدورة السابقة. والأهم من ذلك، أن غروت حقق رقماً قياسياً غير مسبوق في طريقة احتساب النقاط آنذاك، حيث بلغ مجموع نقاطه 16 نقطة (مجموع ترتيبه في الأحداث الخمسة)، وهو ما يعكس تفوقه الساحق وتفرده في الأداء.
- ما هي جائزة سفينسكا داغبلاديت الذهبية (Svenska Dagbladets Guldmedalj)؟
- تُعد جائزة سفينسكا داغبلاديت الذهبية، أو "ميدالية الذهب من سفينسكا داغبلاديت"، أرفع جائزة رياضية في السويد تُمنح سنوياً لأفضل إنجاز رياضي سويدي خلال العام. يُنظر إليها كأحد أبرز مظاهر التقدير الرياضي في البلاد، وقد حصل عليها غروت عام 1948 تقديراً لإنجازه الأولمبي.
- كيف أثرت الخلفية العائلية والظروف الاقتصادية على مسيرة غروت؟
- لعبت الخلفية العائلية لغروت دوراً كبيراً في تشكيل مساره؛ فوالده كان مهندساً معمارياً أولمبياً، مما ربطه بالرياضة الكبرى منذ الصغر. لكن انهيار كروغر الاقتصادي عام 1932 أثر بشكل مباشر على خططه لدراسة الطب في كامبريدج. هذا التحول أجبره على اختيار مهنة عسكرية، والتي أثبتت لاحقاً أنها بيئة مثالية لصقل مهاراته اللازمة للخماسي الحديث، مما حول التحدي إلى فرصة.
- ما هو الدور الذي لعبه ويليام غروت في الرياضة بعد اعتزاله المنافسة؟
- بعد اعتزاله المنافسة، لم يبتعد غروت عن عالم الرياضة، بل استمر في المساهمة بفاعلية. فقد تولى تدريب الفريق السويدي للخماسي الحديث، وحقق نجاحاً باهراً من خلال إشرافه على أبطال أولمبيين مثل لارس هول. كما تقلد منصباً دولياً رفيعاً كأمين عام للاتحاد الدولي للخماسي الحديث والبياتلون (UIPMB) لمدة 24 عاماً، مما جعله شخصية محورية في تطوير الرياضة على مستوى العالم.

English
español
français
português
русский
العربية
简体中文 