تتميز الكنيسة الأرمينية الرسولية، التي تُعدّ واحدة من أقدم الكنائس المسيحية في العالم وأكثرها عراقةً وتاريخاً، بتقويمها الخاص للاحتفالات الدينية. على عكس غالبية الطوائف المسيحية الأخرى التي تحتفل بعيد الميلاد المجيد في الخامس والعشرين من ديسمبر، تحتفي الكنيسة الأرمينية الرسولية بميلاد السيد المسيح في السادس من كانون الثاني (يناير). لا يُعدّ هذا التاريخ مجرد تفصيل زمني، بل هو جزء أصيل من تقليد كنسي عريق يتزامن فيه الاحتفال بالميلاد مع عيد الغطاس، المعروف أيضاً بعيد الظهور الإلهي أو عيد المعمودية.
لماذا السادس من كانون الثاني؟ جذور تقليد عريق
تُجسد هذه الممارسة الأرمنية تقليداً مسيحياً يعود إلى القرون الأولى. ففي بدايات المسيحية، لم يكن هناك تاريخ موحد ومعتمد عالمياً للاحتفال بميلاد المسيح. كان السادس من كانون الثاني هو التاريخ الأصلي والمُعتمد على نطاق واسع في كل من الشرق والغرب، حيث كان يُعتقد أنه اليوم الذي شهد "ظهور" يسوع للعالم، وهو ما يشمل ميلاده ومعموديته وظهور لاهوته. لم ينتقل الاحتفال إلى الخامس والعشرين من ديسمبر في الغرب إلا في وقت لاحق لأسباب تاريخية وتوفيقية، بينما حافظت الكنيسة الأرمينية الأمينة على هذا التقليد الكنسي الأصيل الذي توارثته عبر الأجيال دون تغيير.
عيد الغطاس: ثلاثية التجليات الإلهية
يُعرف عيد الغطاس في اليونانية بـ "إبيفانيا" (Epiphany)، وهي كلمة تعني "الظهور" أو "التجلي الإلهي"، وهو يوم بالغ الأهمية في اللاهوت الأرمني. بالنسبة للكنيسة الأرمنية، يجمع هذا اليوم المقدس ثلاثة أحداث محورية تُظهر لاهوت السيد المسيح وتُعلن عن هويته الإلهية بوضوح تام، مُبرزاً جانباً من التعدد الروحي لهذا الاحتفال:
- الميلاد المقدس (Nativity): الاحتفال بولادة يسوع المسيح في بيت لحم، وهو تجسيد الكلمة الإلهية ودخوله إلى العالم البشري كإنسان كامل وإله كامل. هذا الحدث يمثل بداية خلاص البشرية.
- ظهور لاهوته للمجوس (Theophany/Adoration of the Magi): زيارة المجوس من المشرق وتعبدهم للطفل يسوع بعد أن قادهم النجم الساطع. تُعدّ هذه الزيارة أول إعلان خارجي لملكه ومسيحانيته للعالم الوثني الواسع، مُشيرةً إلى أن المسيح ليس مخلصاً لبني إسرائيل وحدهم، بل هو نور لكل الأمم والشعوب.
- معمودية يسوع في نهر الأردن (Baptism of Jesus): يُعدّ هذا الحدث المحور الأبرز الذي يُصادف فيه الاحتفال بالغطاس. فخلال معمودية يسوع على يد يوحنا المعمدان، انفتحت السموات ونزل الروح القدس على هيئة حمامة، وجاء صوت الآب السماوي ليقول بوضوح: "هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت". يُعدّ هذا الظهور الواضح للثالوث الأقدس (الآب والابن والروح القدس) تتويجاً للتجليات الإلهية وتأكيداً على رسالة المسيح الإلهية.
تُقام في هذا اليوم قداسات احتفالية مهيبة في الكنائس الأرمنية حول العالم، ويُعرف اليوم أيضاً بـ"بركة الماء" أو "قداس المياه". تُبارك المياه في الكنائس إحياءً لذكرى معمودية يسوع في نهر الأردن، ويُعتقد أن هذه المياه المُباركة تحمل قوى تطهير وشفاء. يُشارك المؤمنون في هذه الطقوس الروحانية العميقة، مُجدّدين إيمانهم وتكريسهم للمسيح، ويُشجعون على أخذ جزء من هذه المياه المباركة إلى منازلهم كرمز للحماية والبركة.
أسئلة شائعة حول احتفالات عيد الميلاد الأرمينية
- لماذا تحتفل الكنيسة الأرمينية بعيد الميلاد في 6 يناير بدلاً من 25 ديسمبر؟
- كان 6 يناير هو التاريخ الأصلي والوحيد لاحتفال المسيحيين الأوائل بميلاد المسيح وظهوره الإلهي (عيد الغطاس). بينما تبنت معظم الكنائس الغربية لاحقاً 25 ديسمبر كعيد منفصل للميلاد، حافظت الكنيسة الأرمينية الرسولية على التقليد الأصيل والعريق لهذه الكنائس الشرقية التي تُعاين الحدثين كجزء من ظهور واحد للمسيح.
- ماذا يمثل عيد الغطاس في التقاليد الأرمنية؟
- بالنسبة للكنيسة الأرمنية، يمثل عيد الغطاس (الظهور الإلهي) تجليات إلهية متعددة: ميلاد المسيح، وظهور لاهوته للمجوس (إعلان المسيح للأمم)، ومعموديته في نهر الأردن حيث أُعلن عنه كابن الله الحبيب والروح القدس تجلى. إنه يوم شامل للاحتفال بظهور المسيح للعالم وكمال لاهوته وبشريته.
- هل تُعدّ الكنيسة الأرمينية الرسولية فرعاً من الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية؟
- الكنيسة الأرمينية الرسولية هي كنيسة أرثوذكسية شرقية مستقلة، لكنها لا تتبع المجمع الأرثوذكسي الشرقي اليوناني أو الروسي التقليدي (الخلقيدوني). تُصنّف ضمن الكنائس الأرثوذكسية المشرقية (غير الخلقيدونية)، التي تضم أيضاً الكنائس القبطية والإثيوبية والسريانية والإريترية وغيرها. لها تاريخها اللاهوتي والكنسي الخاص، وتتميز بثرائها الثقافي والروحي الفريد.
بهذه الطريقة الفريدة والعميقة، لا تُحيي الكنيسة الأرمينية الرسولية ذكرى ميلاد السيد المسيح فحسب، بل تُعيد التأكيد على جوهر إيمانها المسيحي: تجسد الله وظهوره للبشرية كطريق للخلاص والنور الأبدي، مُحافظةً على إرثها الروحي الغني الذي يمتد لآلاف السنين.

English
español
français
português
русский
العربية
简体中文 