يُعدّ يوم الثورة السورية، الذي وقع في الثامن من آذار (مارس) عام 1963، بمثابة مفترق طرق حاسم في مسار تاريخ البلاد الحديث. لم يكن هذا اليوم مجرد تغيير في السلطة، بل كان نقطة تحوّل جذريّة أطاحت بالحكومة القائمة آنذاك، برئاسة الدكتور ناظم القدسي، لتُفسح المجال أمام تأسيس نظام حكم جديد قاده حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي بسط سيطرته على سوريا لخمسة عقود تلت، تاركًا بصمات عميقة على كل جوانب الحياة السورية.
فما هو سياق هذا الحدث التاريخي؟ وما هي دوافعه ونتائجه المباشرة وطويلة الأمد؟
خلفية الانقلاب ودور حزب البعث
تأسس حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا خلال الأربعينيات، تحديداً في عام 1947، على يد المفكرين ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وزكي الأرسوزي. مثّل الحزب حركة فكرية وسياسية ركزت على مبادئ القومية العربية والاشتراكية، وشعاره الشهير "وحدة، حرية، اشتراكية". كان يطمح إلى تحقيق وحدة شاملة للعالم العربي، التحرر من النفوذ الأجنبي، وتعزيز العدالة الاجتماعية عبر إصلاحات اقتصادية واجتماعية جذرية.
اكتسب الحزب شعبية واسعة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، خصوصًا بين فئات الشباب والطلاب والضباط العسكريين والمثقفين. هؤلاء كانوا يشعرون بالإحباط الشديد من الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية في البلاد، بما في ذلك الفساد المستشري، وعدم الاستقرار الحكومي المتكرر، بالإضافة إلى خيبة الأمل من تجربة الوحدة المصرية السورية (الجمهورية العربية المتحدة) التي انتهت عام 1961 بشكل قاسٍ.
ماذا حدث في 8 آذار 1963؟
في فجر الثامن من آذار عام 1963، نفّذت مجموعة من الضباط العسكريين البعثيين، الذين شكلوا "اللجنة العسكرية" السرية داخل الجيش السوري، انقلابًا عسكريًا محكمًا. كان من أبرز هؤلاء الضباط صلاح جديد، وحافظ الأسد، ومحمد عمران. اتسم الانقلاب بالسرعة والحسم والدموية المحدودة نسبيًا في ساعاته الأولى، وسرعان ما سيطرت القوات الموالية للبعث على المراكز الحيوية للدولة في دمشق والمحافظات الأخرى. أُعلن عن حل الحكومة القائمة وإلغاء الدستور، ليُرسّخ حزب البعث نفسه كقوة حاكمة جديدة ومطلقة في سوريا.
الإصلاحات الطموحة والقمع المستمر
احتفل النظام البعثي الجديد بيوم الثورة بحماسة وطنية قصوى، مُصوراً نفسه كحركة شعبية تحررية جاءت لإنقاذ البلاد من "الحرس القديم" الفاسد والرجعي. شرع النظام فورًا في تنفيذ برنامج إصلاحي جذري طموح يهدف إلى إعادة تشكيل البنية الاقتصادية والاجتماعية للدولة. شملت هذه الإصلاحات:
- الإصلاح الزراعي: من خلال مصادرة الأراضي الزراعية الكبيرة وإعادة توزيعها على الفلاحين الفقراء، وتأسيس الجمعيات التعاونية الزراعية بهدف تحقيق العدالة الاجتماعية وزيادة الإنتاج.
- تأميم الصناعات الرئيسية: شمل تأميم المصارف وشركات التأمين ومعظم الشركات الصناعية الكبرى والمؤسسات التجارية، مما وضع جزءًا كبيرًا من الاقتصاد تحت سيطرة الدولة. كان الهدف المعلن هو توجيه الموارد لخدمة الصالح العام ومنع احتكار الثروة.
- مكافحة الفساد: حملات واسعة النطاق لمكافحة الفساد، والتي استهدفت في كثير من الأحيان شخصيات محسوبة على النظام السابق أو خصوم سياسيين.
- القومية العربية: اتبع النظام سياسة خارجية قوية قائمة على مبادئ القومية العربية، ساعيًا إلى توحيد الصف العربي ودعم حركات التحرر. تجسدت هذه السياسة في مشاركة سوريا في حرب الأيام الستة عام 1967، إلى جانب دول عربية أخرى، في محاولة غير موفقة لهزيمة إسرائيل، الأمر الذي أدى إلى احتلال إسرائيل لهضبة الجولان السورية، وهي خسارة كانت وما زالت تمثل جرحًا غائرًا في الذاكرة الوطنية.
- الإصلاحات الاجتماعية: تضمنت توسيع نطاق الوصول إلى التعليم المجاني في جميع المراحل، وتطوير الرعاية الصحية العامة، وبناء المستشفيات والمراكز الصحية في المدن والأرياف. كما بذلت جهود ملموسة لتعزيز حقوق المرأة ومشاركتها في الحياة العامة والعمل، ما لاقى ترحيبًا واسعًا، خاصة في المجتمعات المهمشة والريفية.
هل واجه النظام البعثي معارضة؟ وكيف تعامل معها؟
على الرغم من الإصلاحات، واجهت الحكومة البعثية معارضة كبيرة ومتنامية من تيارات سياسية واجتماعية مختلفة. كانت هذه المعارضة تتألف من الجماعات الإسلامية، كجماعة الإخوان المسلمين، والقوميين العرب غير البعثيين (مثل الناصريين)، بالإضافة إلى الليبراليين والشيوعيين، وحتى الانشقاقات داخل صفوف حزب البعث نفسه، التي أدت إلى صراعات داخلية على السلطة، أبرزها "الحركة التصحيحية" عام 1970 التي عززت سلطة حافظ الأسد. رد النظام على هذه المعارضة بقبضة أمنية حديدية وقمع وحشي، شمل الاعتقالات التعسفية، التعذيب الممنهج في السجون، وحالات القتل خارج نطاق القانون. أدت هذه السياسات إلى إرساء دولة أمنية بوليسية فرضت سيطرتها المطلقة على المجتمع، وألغت أي هامش للمعارضة السلمية أو التعبير الحر.
التحديات الاقتصادية وإرث الحكم البعثي
على الرغم من التركيز على الاشتراكية والإصلاحات الاقتصادية، ظل الاقتصاد السوري يعاني من مشاكل هيكلية مزمنة طوال فترة حكم البعث. ظل يعتمد بشكل كبير على الزراعة وتصدير المواد الخام مثل النفط والفوسفات، مع غياب تنوع حقيقي في القاعدة الإنتاجية. ساهمت البيروقراطية المركزية، وسوء الإدارة، وتأثير العقوبات الدولية في بعض الفترات، بالإضافة إلى الإنفاق العسكري الهائل، في إعاقة التنمية الاقتصادية المستدامة، مما أثر سلبًا على مستويات المعيشة للمواطنين في كثير من الأحيان.
تراكمت التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مدى عقود من الحكم المطلق لحزب البعث، وتفجرت في نهاية المطاف عام 2011 مع اندلاع احتجاجات الربيع العربي. طالب المتظاهرون بمزيد من الحريات السياسية، إنهاء حالة الطوارئ المستمرة منذ عقود، ومكافحة الفساد، وإصلاح النظام. كان رد الحكومة السورية حاسمًا وعنيفًا، مما أشعل فتيل حرب أهلية مدمرة مستمرة لأكثر من عقد من الزمن، وما زالت البلاد تدفع ثمنها باهظًا حتى اليوم.
الإرث المستمر والتحديات الراهنة
لا يزال يوم الثورة السورية عام 1963 لحظة تاريخية فارقة ومركبة في وجدان السوريين. يمثل هذا اليوم بداية حقبة من التغييرات الجذرية على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، حيث شهدت البلاد توسعًا في التعليم والرعاية الصحية وزيادة في مشاركة المرأة. إلا أنه يمثل أيضًا نقطة انطلاق لتأسيس نظام حكم قمعي أحادي لم يتمكن في نهاية المطاف من الوفاء بوعوده بتحقيق مستقبل أفضل وأكثر عدالة وكرامة للشعب السوري.
اليوم، لا تزال سوريا تعيش تحت وطأة إرث الفترة البعثية الطويلة، وما خلفته من تركة ثقيلة من الاستقطاب السياسي، والتحديات الاقتصادية الهائلة، والصراعات المستمرة التي مزقت نسيجها الاجتماعي. يبقى فهم هذا الحدث التاريخي، بآماله وخيباته، أمرًا جوهريًا لاستيعاب التعقيدات الراهنة التي تواجهها البلاد في سعيها نحو الاستقرار والتعافي.

English
español
français
português
русский
العربية
简体中文 




