شهدت روسيا خلال عامي 2017 و2018 فترة مضطربة تميزت بسلسلة طويلة من الاحتجاجات الجماهيرية والمظاهرات في الشوارع، التي اجتاحت العديد من المدن في مختلف أنحاء الاتحاد الروسي. هذه التحركات الشعبية، التي اتخذت طابعين رئيسيين، عكست استياءً عميقًا ومتزايدًا داخل المجتمع الروسي. كانت المرحلة الأولى، التي بدأت في مارس 2017 واستمرت حتى ربيع 2018، موجهة بشكل أساسي ضد الفساد المستشري في الحكومة الروسية ومؤسسات الدولة. أما المرحلة الثانية، التي تداخلت مع الأولى وبلغت ذروتها في منتصف عام 2018، فكانت احتجاجًا صريحًا على الخطط الحكومية لرفع سن التقاعد.
خلفية الاحتجاجات ودوافعها
لم تكن هذه الاحتجاجات وليدة لحظتها، بل كانت تتويجًا لسنوات من التوترات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فقد جاءت في أعقاب الأزمة المالية الروسية التي ضربت البلاد بين عامي 2014 و2016، والتي تركت آثارًا سلبية على معيشة المواطنين. ورغم أن الأزمة الاقتصادية كانت عاملًا محفزًا، إلا أن الجذور الحقيقية للاحتجاجات كانت تكمن في الفساد المستوطن الذي يطال مختلف مستويات السلطة الروسية، وصولًا إلى أعلى هرم الدولة.
شرارة الاحتجاجات المناهضة للفساد
بدأت موجة الاحتجاجات المناهضة للفساد في مارس 2017 بشكل خاص بعد إطلاق الفيلم الاستقصائي "ليس هو ديمون لك" (He Is Not Dimon to You) من قبل مؤسسة مكافحة الفساد التابعة للمعارض البارز أليكسي نافالني. جاء هذا الفيلم في وقت كانت فيه البلاد تشهد بالفعل حالة من التوتر والترقب. وقد كشف الفيلم، بأسلوب تفصيلي وموثق، عن مزاعم واسعة النطاق حول أنشطة فساد تورط فيها رئيس الوزراء آنذاك، دميتري ميدفيديف. لم يقتصر الاستياء الشعبي على قضية الفساد هذه فحسب، بل تغذى أيضًا من قضايا أخرى مثل الهدم غير المخطط له للعديد من الشقق السكنية في موسكو، والتي أثارت غضب السكان، والإضرابات المطولة لسائقي الشاحنات التي كانت مستمرة منذ عام 2015 احتجاجًا على نظام رسوم المرور المعروف باسم "بلاتون".
موجات الاحتجاجات المناهضة للفساد (2017-2018)
مظاهرات 26 مارس 2017: غضب عارم يجتاح البلاد
في السادس والعشرين من مارس 2017، شهدت روسيا احتجاجات وطنية غير مسبوقة ضد الفساد المزعوم، حيث اندلعت المظاهرات بشكل متزامن في أكثر من 100 مدينة روسية. كان رد الفعل الرسمي المتجاهل والرافض من قبل السلطات الروسية على الفيلم الاستقصائي "ليس هو ديمون لك"، والذي حصد أكثر من 23 مليون مشاهدة على يوتيوب في وقت قصير، هو الشرارة التي أشعلت غضب الشارع. بحلول مساء ذلك اليوم الأحد، تدخلت شرطة مكافحة الشغب المدججة بالدروع والخوذات لاعتقال ما يزيد عن 1000 متظاهر في وسط موسكو وحدها. ورغم القمع، صدحت حناجر عشرات الآلاف من المتظاهرين بهتافات مدوية ومحتجة، مثل "عار!"، و"ميدفيديف، استقل!"، و"بوتين لص!". أظهر استطلاع لمركز ليفادا المستقل أن 38% من الروس الذين شملهم الاستطلاع أيدوا هذه الاحتجاجات، وأن 67% منهم حملوا الرئيس فلاديمير بوتين المسؤولية "بشكل كامل" أو "إلى حد كبير" عن الفساد المنتشر.
تواصل التصعيد والقمع
لم تكن مظاهرات مارس هي النهاية، بل كانت بداية لسلسلة من التحركات. فقد شهدت البلاد موجة جديدة من الاحتجاجات الجماهيرية في 12 يونيو 2017. ومع تصاعد وتيرة الأحداث، تعرض أليكسي نافالني للاعتقال في 29 سبتمبر 2017، قبل ساعات فقط من تجمع كان مخططًا له في نيجني نوفغورود. ولم يثن ذلك المحتجين عن الاستمرار، حيث أُعلن عن موجة جديدة من الاحتجاجات في 7 أكتوبر، والذي يصادف عيد ميلاد الرئيس بوتين، في خطوة ذات دلالة رمزية. استمرت الاحتجاجات والانتفاضات بوتيرة تصاعدية في عام 2018، وشهدت ميلًا نحو التطرف في بعض الأحيان. ففي 5 مايو 2018، أي قبل يومين فقط من تنصيب بوتين رئيسًا لولاية جديدة، تم اعتقال عدد قياسي من المتظاهرين. وقد نُظمت مسيرات حاشدة في أكثر من 60 مدينة في جميع أنحاء روسيا، مما يؤكد على الانتشار الواسع والعميق لحالة عدم الرضا.
احتجاجات إصلاح نظام التقاعد (2018)
في الوقت الذي كانت فيه الاحتجاجات المناهضة للفساد مستمرة، برزت قضية أخرى أثارت غضبًا شعبيًا واسعًا: الخطط الحكومية لرفع سن التقاعد. بدأت الاحتجاجات المناهضة لهذه الخطوة في 14 يونيو 2018، وسرعان ما انضمت وتداخلت مع المظاهرات المستمرة ضد الفساد. كانت هذه القضية شديدة الحساسية بالنسبة للعديد من الروس، الذين رأوا فيها تهديدًا لاستقرارهم الاقتصادي ومستقبلهم. وقد استمرت هذه الموجة من الاحتجاجات ضد إصلاحات التقاعد حتى نهاية عام 2018، مشكلةً ضغطًا كبيرًا على الحكومة ومبرزةً حجم المعارضة الشعبية للقرار. وقد قاد نافالني بشكل أساسي الاحتجاجات المناهضة للفساد، وانضم إليه مشاركون بارزون آخرون ومنظمات مثل الحزب الليبرتاري، وروسيا المفتوحة، وحركة أرتوبدغوتوفكا، مما أضفى طابعًا أوسع على قاعدة هذه الحركات.
تأثير الاحتجاجات وتداعياتها
لقد شكلت احتجاجات 2017-2018 تحديًا كبيرًا للسلطات الروسية، حيث كشفت عن وجود قاعدة واسعة من الاستياء الشعبي حيال قضايا الفساد وسوء الإدارة وتأثير السياسات الحكومية على حياة المواطنين. وبينما لم تُحدث هذه الاحتجاجات تغييرًا جذريًا فوريًا في بنية السلطة، إلا أنها نجحت في تسليط الضوء على المشكلات الهيكلية في البلاد وأجبرت الحكومة على التعامل مع ضغط شعبي غير مسبوق، وأكدت على الدور المحوري لشخصيات المعارضة مثل أليكسي نافالني في تعبئة الرأي العام.
الأسئلة الشائعة (FAQs)
- ما هي الأسباب الرئيسية لاحتجاجات 2017-2018 في روسيا؟
- كانت الأسباب الرئيسية للاحتجاجات مزدوجة: مكافحة الفساد المستشري في الحكومة الروسية، والاعتراض على الخطط الحكومية لرفع سن التقاعد. وقد ساهمت الأزمة المالية الروسية (2014-2016) في تأجيج حالة الاستياء العام.
- من كان القائد الأبرز للاحتجاجات المناهضة للفساد؟
- كان المعارض أليكسي نافالني هو القائد الأبرز للاحتجاجات المناهضة للفساد، من خلال مؤسسته لمكافحة الفساد ونشاطه في تنظيم المظاهرات.
- ما هو فيلم "ليس هو ديمون لك"؟
- "ليس هو ديمون لك" هو فيلم استقصائي أنتجته مؤسسة مكافحة الفساد التابعة لنافالني في مارس 2017. كشف الفيلم عن مزاعم حول ثروة غير مشروعة وأنشطة فساد مرتبطة برئيس الوزراء الروسي آنذاك دميتري ميدفيديف، وحصد ملايين المشاهدات على يوتيوب وكان الشرارة التي أطلقت موجة الاحتجاجات المناهضة للفساد.
- ماذا كان مطلب المتظاهرين بشأن سن التقاعد؟
- طالب المتظاهرون بالتخلي عن خطة الحكومة لرفع سن التقاعد المخطط له، معتبرين أن هذا الإجراء سيضر بالعمال ويزيد من الضغوط الاقتصادية عليهم.
- كيف استجابت السلطات الروسية للاحتجاجات؟
- استجابت السلطات الروسية بالرفض والتقليل من شأن الاحتجاجات في البداية، ثم استخدمت القوة لقمعها واعتقال أعداد كبيرة من المتظاهرين، بمن فيهم القادة المعارضون مثل أليكسي نافالني.
- ما هو مدى انتشار هذه الاحتجاجات؟
- كانت الاحتجاجات واسعة الانتشار، حيث وقعت مظاهرات في أكثر من 100 مدينة روسية خلال موجة مارس 2017، وفي أكثر من 60 مدينة في مايو 2018، مما يدل على وجود استياء شعبي عميق يمتد عبر أنحاء البلاد.

English
español
français
português
русский
العربية
简体中文 