تصوروا إنجلترا في منتصف القرن الخامس عشر، حقبة مضطربة شهدت صراعاً مريراً على السلطة استمر لعقود. هذه الحقبة، التي عُرفت حينها، ولفترة طويلة بعدها، بـ "الحروب الأهلية"، باتت اليوم تُعرف بـ حروب الورود. لم تكن هذه الحروب مجرد صراعات عابرة، بل كانت سلسلة من الحروب الأهلية المدمرة التي دارت رحاها للسيطرة على العرش الإنجليزي، وكانت أطرافها أنصار فرعين متنافسين من البيت الملكي العريق بلانتاجينت: وهما بيتا لانكستر ويورك. لم تؤد هذه الحروب إلى إراقة الدماء وتغيير الولاءات فحسب، بل أفضت في نهاية المطاف إلى انقراض الخطوط الذكورية المباشرة لكلا البيتين، مما مهد الطريق أمام بيت تيودور ليرث مطالبة لانكستر بالعرش. ومع انتهاء هذه الحروب الطاحنة، توحد بيتا تيودور ويورك من خلال الزواج، مؤسسين بذلك سلالة ملكية جديدة عملت على تسوية جميع المطالبات المتنافسة، وفتحت صفحة جديدة في تاريخ إنجلترا.
جذور الصراع وبدايات حروب الورود
لكي نفهم عمق هذا الصراع، لا بد أن نعود إلى جذوره. فقد كانت إنجلترا، قبل اندلاع حروب الورود، قد خرجت للتو من حرب المائة عام الطويلة والمكلفة، التي تركت وراءها ندوباً اجتماعية واقتصادية عميقة. هذه المشاكل لم تضعف فقط هيبة ومكانة الملكية الإنجليزية، بل كشفت أيضاً عن عيوب هيكلية في نظام الإقطاع المتدهور، وعن النفوذ المتزايد لدوقيات قوية كان الملك إدوارد الثالث قد أسسها. يضاف إلى ذلك كله، الضعف العقلي والهشاشة في حكم الملك هنري السادس، الذي كان عاجزاً عن توجيه دفة الحكم، الأمر الذي أشعل شرارة الطموح لدى ريتشارد دوق يورك، وأعاد إحياء اهتمامه بمطالبة قوية بالعرش. وبينما يتفق المؤرخون على هذه العوامل المحورية، إلا أنهم لا يزالون يختلفون حول أي منها كان الشرارة الأساسية التي أطلقت فتيل هذه الحروب المدمرة.
بدأت فصول الحروب تتكشف فعلياً في عام 1455. فبعد سلسلة من التوترات، نجح ريتشارد دوق يورك في أسر الملك هنري السادس في إحدى المعارك، واستطاع أن يُعين نفسه "اللورد الحامي" من قبل البرلمان، وهو ما أرسى سلاماً هشاً لم يدم طويلاً. بعد أربع سنوات، استُؤنف القتال بضراوة. وفي هذه المرحلة، برز دور شخصية محورية، هو إيرل وارويك، المعروف بـ "صانع الملوك"، الذي قاد جيوش اليوركيين. استعاد اليوركيون الملك هنري، لكن ريتشارد دوق يورك قُتل في عام 1460، مما نقل المطالبة بالعرش إلى ابنه الشاب إدوارد. ورغم أن اليوركيين خسروا وصاية هنري في العام التالي، إلا أنهم تمكنوا من سحق جيش لانكستر في معارك حاسمة، ليتوج إدوارد ملكاً في يونيو 1461، بعد ثلاثة أشهر فقط. وعلى الرغم من المقاومة المستمرة لحكم إدوارد، إلا أنها أُخمدت بحلول عام 1464، ليتحقق بذلك قدر من السلام النسبي الذي طال انتظاره.
التحولات والعودة إلى الصراع
لم يكن هذا السلام قدراً ثابتاً، ففي عام 1469، شهدت الساحة السياسية تحولاً درامياً: سحب إيرل وارويك، الذي كان قد صنع الملك إدوارد، دعمه له. كان السبب وراء هذا التغير الجذري معارضة وارويك لسياسة الملك الخارجية واختياره لزوجته. تحول وارويك لدعم مطالبة لانكستر، مما أشعل فتيل القتال من جديد. خُلع إدوارد عن العرش لفترة وجيزة واضطر للفرار إلى فلاندرز في العام التالي، بينما أُعيد هنري السادس إلى الحكم. لكن عودة هنري لم تدم طويلاً، فقد تعرض اللانكستريون لهزائم ساحقة في معارك حاسمة، قُتل فيها وارويك نفسه، وكذلك وريث هنري. أُعيد الملك هنري إلى السجن، وقُتل الكثير من نبلاء لانكستر أو أُعدموا أو نُفوا. وبعد فترة وجيزة، استعاد إدوارد عرشه، وما لبث أن توفي هنري السادس، ويُرجح أنه قُتل بأمر من إدوارد. استمر حكم إدوارد دون معارضة حقيقية، وتمتعت إنجلترا خلال هذه الفترة الطويلة نسبياً، اثني عشر عاماً، بسلام نسبي حتى وفاته في عام 1483.
نهاية حروب الورود وصعود التيودور
مع وفاة إدوارد الرابع، صعد إلى العرش ابنه إدوارد الخامس، البالغ من العمر اثني عشر عاماً، لكن حكمه لم يدم سوى 78 يوماً قبل أن يخلعه عمه، ريتشارد الثالث. اعتلى ريتشارد العرش وسط سحابة كثيفة من الجدل والريبة، خاصة بعد الاختفاء الغامض لنجلي إدوارد الرابع الصغيرين (المعروفين بـ "أمراء البرج"). أثار هذا الجدل ثورة قصيرة الأجل ولكنها كانت ذات تأثير كبير، دفعت العديد من أبرز أنصار يورك إلى الهرب والانضمام إلى قضية لانكستر. وفي خضم هذه الفوضى العارمة، عاد هنري تيودور، وهو سليل لانكاستر من خلال والدته (ابن الأخ غير الشقيق للملك هنري السادس)، من منفاه في فرنسا. وصل هنري على رأس جيش ضم قوات إنجليزية وفرنسية وبريتونية. في عام 1485، التقى جيش هنري بجيش ريتشارد في معركة بوسورث فيلد الحاسمة، حيث هزم هنري خصمه الملك ريتشارد الثالث وقُتل ريتشارد في المعركة، ليطوي بذلك صفحة حكم يورك. اعتلى هنري العرش باسم هنري السابع، وعزز شرعيته بزواجه من إليزابيث يورك، الابنة الكبرى والوريثة الشرعية الوحيدة للملك إدوارد الرابع، موحداً بذلك المطالبات المتنافسة لبيتي لانكستر ويورك، وواضعاً حداً فاصلاً لحقبة الصراع.
لكن السلام لم يأتِ بين عشية وضحاها. ففي عام 1487، حاول إيرل لينكولن إثارة تمرد بتقديمه لشاب يدعى لامبرت سيمينيل على أنه إدوارد بلانتاجينت، المدعي المحتمل للعرش. ولكن جيش لينكولن هُزم، وقُتل لينكولن نفسه في معركة ستوك فيلد، التي تُعد بمثابة الخاتمة الفعلية لحروب الورود. لم يواجه هنري السابع بعد ذلك أي تهديدات عسكرية داخلية خطيرة لعهده. وفي عام 1490، ظهر مدعٍ آخر، وهو بيركين واربيك، الذي ادعى أنه ريتشارد شروزبري، الابن الثاني لإدوارد الرابع. إلا أنه أُعدم قبل أن يتمكن من إطلاق أي تمرد جاد. وبذلك، ترسخ حكم بيت تيودور، الذي حكم إنجلترا حتى عام 1603، معززاً مكانة وقوة النظام الملكي الإنجليزي بشكل كبير، خاصة في عهد الملكين العظيمين هنري الثامن وإليزابيث الأولى. شكلت هذه الفترة نهاية لعصور إنجلترا الوسطى وبداية فجر النهضة الإنجليزية. وكما جادل المؤرخ الشهير جون جاي، فإن "إنجلترا كانت أكثر صحة من الناحية الاقتصادية، وأكثر اتساعاً، وأكثر تفاؤلاً في ظل أسرة تيودور" من أي وقت مضى منذ الاحتلال الروماني، دلالة على التحول العميق الذي أحدثته هذه الحروب في نسيج الأمة.
معركة توتون: ذروة الصراع الدموي
بين فصول حروب الورود المتقلبة، تبرز معركة واحدة بكونها نقطة تحول دموية لا تُنسى: معركة توتون. وقعت هذه المعركة في 29 مارس 1461، وهو يوم أحد الشعانين، بالقرب من قرية توتون الصغيرة، التي تقع الآن في شمال يوركشاير. حملت هذه المعركة "سمعة مشكوكاً فيها"، إذ يُعتقد أنها ربما كانت أكبر وأكثر المعارك دموية على الإطلاق في تاريخ إنجلترا. تخيلوا خمسين ألف جندي، أي ما يعادل جيشاً هائلاً في ذلك الزمن، يتقاتلون لساعات طويلة في ظروف قاسية، وسط عاصفة ثلجية هوجاء، تحدّ من الرؤية وتُصعّب الحركة. لم تكن هذه المعركة مجرد اشتباك عادي، بل كانت حاسمة للغاية، فقد أحدثت تغييراً جذرياً في سدة الحكم في إنجلترا، حيث أطاح إدوارد الرابع بالملك هنري السادس، وأرسى دعائم بيت يورك على العرش الإنجليزي، دافعاً ببيت لانكستر الحاكم وقتها، وداعميه الرئيسيين، إلى المنفى والشتات.
السياق العام لمعركة توتون
لفهم السياق الدرامي لـ توتون، يجب أن ندرك أن الملك هنري السادس، الذي كان على العرش منذ عام 1422، كان يُنظر إليه كحاكم ضعيف، غير فعال، وحتى غير سليم عقلياً في فترات متقطعة، وهو ما شجع النبلاء على التخطيط للسيطرة عليه أو على الأقل على حكمه. بحلول خمسينيات القرن الخامس عشر، تدهور هذا الوضع المتأزم إلى حرب أهلية صريحة، دارت بين أنصار زوجته القوية، الملكة مارغريت أنجو، وأنصار ابن عمه، ريتشارد دوق يورك. في خطوة تصعيدية، أقر البرلمان الإنجليزي في عام 1460 ما عُرف بـ "قانون الاتفاق" (Act of Accord)، الذي كان سيسمح ليورك بأن يخلف هنري على العرش. لكن الملكة مارغريت رفضت رفضاً قاطعاً أن يُسلب ابنها، إدوارد من وستمنستر، حقه الشرعي في وراثة العرش. نجحت الملكة في حشد جيش كبير من المؤيدين، وتمكنت من هزيمة وقتل ريتشارد دوق يورك في معركة ويكفيلد المدمرة. اعتبر أنصار الدوق الراحل أن اللانكستريين قد نكثوا العهود وتراجعوا عن الاتفاق البرلماني والقانوني. ولذلك، وجد إدوارد، ابن يورك ووريثه، دعماً كافياً لإدانة هنري وإعلان نفسه ملكاً. في ظل هذه التوترات المشتعلة، جاءت معركة توتون لتكون بمثابة الاختبار النهائي، ولتؤكد، بقوة السلاح، حق المنتصر في حكم إنجلترا.
مجريات المعركة الدامية ونتائجها
عندما وصل جيش يورك إلى ساحة معركة توتون، وجدوا أنفسهم يواجهون عدداً أكبر بكثير من قوات اللانكستريين. جزء كبير من قوتهم، تحت قيادة دوق نورفولك، لم يكن قد وصل بعد. لكن القائد اليوركي الماهر، اللورد فوكونبيرج، نجح في قلب الموازين بذكاء تكتيكي لافت. فقد أمر رماة السهام التابعين له بالاستفادة القصوى من الرياح القوية التي كانت تهب باتجاه أعدائهم. أدى هذا إلى تبادل نيران أحادي الجانب؛ فسهام اليوركيين كانت تصل عميقاً في صفوف اللانكستريين، بينما سهام لانكستر لم تكن تصل إلى خطوط يورك الأمامية، وذلك بسبب قوة الرياح. أثار هذا القصف المستمر غضب وإحباط اللانكستريين، فدفعهم إلى التخلي عن مواقعهم الدفاعية المحصنة والانخراط في قتال يدوي مباشر. استمر هذا القتال الضاري لساعات طويلة، في ظروف جوية سيئة، مستنزفاً قوى المقاتلين من الجانبين. في اللحظة الحاسمة، وصل رجال دوق نورفولك المنتظرون، فأعادوا تنشيط اليوركيين ومنحوهم دفعة معنوية هائلة. وبتشجيع مباشر من الملك الشاب إدوارد، تمكن اليوركيون من سحق أعدائهم. تحولت المعركة إلى مذبحة مروعة؛ ففي أثناء فرارهم، قُتل عدد لا يحصى من اللانكستريين. داس بعضهم البعض في فوضى الفرار، بينما غرق آخرون في الأنهار المجاورة، التي قيل إنها احمرت بلون الدم لعدة أيام متتالية. ولم يقتصر الأمر على قتلى المعركة، بل أُعدم العديد من الأسرى اللانكستريين فوراً بعد الهزيمة.
كانت معركة توتون ضربة قاضية لبيت لانكستر، فقد تقلصت قوتهم بشكل كبير جراء هذه الهزيمة الماحقة. فر الملك هنري السادس من البلاد، ومات العديد من أقوى أنصاره أو نُفوا بعد هذه المعركة الفاصلة. وهكذا، تركت المعركة إنجلترا تحت حكم الملك الجديد إدوارد الرابع، الذي بدأ عهده بترسيخ سلطة يورك. ظلت هذه المعركة محفورة في الذاكرة التاريخية للأجيال اللاحقة، خاصة وأنها صُورت بشكل درامي مؤثر في مسرحية ويليام شكسبير الشهيرة "هنري السادس، الجزء الثالث، الفصل الثاني، المشهد الخامس"، مما أعطاها بعداً ثقافياً خالداً. وفي العصر الحديث، وتحديداً في عام 1929، أُقيم "صليب توتون" (Towton Cross) في ساحة المعركة لإحياء ذكرى هذا الحدث الجلل. وحتى بعد قرون من الاشتباك، لا تزال الأرض تبوح بأسرارها، فقد تم العثور على بقايا أثرية ومقابر جماعية متعددة مرتبطة بالمعركة في المنطقة، لتذكرنا بالثمن الباهظ الذي دفعته إنجلترا في تلك الحقبة الدموية.
الأسئلة الشائعة حول حروب الورود ومعركة توتون
- ما هي حروب الورود؟
- هي سلسلة من الحروب الأهلية التي دارت في إنجلترا خلال منتصف ونهاية القرن الخامس عشر للسيطرة على العرش الإنجليزي، وجمعت بين فرعين متنافسين من البيت الملكي بلانتاجينت: لانكستر ويورك.
- من هم الأطراف الرئيسية في حروب الورود؟
- الأطراف الرئيسية كانت بيتي لانكستر (رمزهم الوردة الحمراء) ويورك (رمزهم الوردة البيضاء)، وكلاهما ينتمي إلى سلالة بلانتاجينت الملكية.
- ما هي الأسباب الرئيسية لاندلاع حروب الورود؟
- تعددت الأسباب، ومن أبرزها ضعف حكم الملك هنري السادس العقلي، والآثار السلبية لحرب المائة عام، والمشاكل الهيكلية في النظام الإقطاعي، بالإضافة إلى مطالبات ريتشارد دوق يورك بالعرش.
- كيف انتهت حروب الورود؟
- انتهت الحروب بانتصار هنري تيودور في معركة بوسورث فيلد عام 1485، حيث هزم وقتل ريتشارد الثالث. اعتلى هنري العرش باسم هنري السابع، وتزوج إليزابيث يورك، موحداً بذلك المطالبات المتنافسة ومؤسساً سلالة تيودور.
- ما هي أهمية حروب الورود في تاريخ إنجلترا؟
- أدت إلى نهاية سلالة بلانتاجينت، وصعود سلالة تيودور التي عززت قوة الملكية، كما شكلت نهاية للعصور الوسطى وبداية لفجر عصر النهضة الإنجليزية.
- ما هي معركة توتون؟
- معركة توتون هي إحدى المعارك الرئيسية والأكثر دموية في حروب الورود، وكانت نقطة تحول حاسمة في الصراع.
- متى وأين وقعت معركة توتون؟
- وقعت المعركة في 29 مارس 1461، بالقرب من قرية توتون في شمال يوركشاير حالياً.
- من هم القادة الرئيسيون الذين شاركوا في معركة توتون؟
- قاد اليوركيين الملك إدوارد الرابع واللورد فوكونبيرج، بينما كانت قوات لانكستر تدعم الملك هنري السادس والملكة مارغريت أنجو.
- ما هي نتائج معركة توتون؟
- أسفرت عن انتصار حاسم لليوركيين، مما أدى إلى تثبيت حكم إدوارد الرابع كملك لإنجلترا، ودفع اللانكستريين الرئيسيين إلى الفرار أو المنفى.
- لماذا تُعتبر معركة توتون ذات أهمية خاصة؟
- تُعرف بأنها ربما كانت أكبر وأكثر المعارك دموية على الإطلاق على الأراضي الإنجليزية، وقد غيرت بشكل جذري مسار حروب الورود بتأكيدها على حكم إدوارد الرابع وتوجيهه ضربة قاضية لبيت لانكستر.

English
español
français
português
русский
العربية
简体中文 