المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة: صرح العدالة في زمن النزاع

في خضم الفظائع التي ارتكبت خلال الحروب اليوغوسلافية الدامية في تسعينيات القرن الماضي، رأت الأمم المتحدة ضرورة قصوى لإنشاء هيئة قضائية مستقلة تتولى مهمة تحقيق العدالة للضحايا ومحاسبة مرتكبي الجرائم البشعة. وهكذا، أبصرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) النور ككيان تابع للأمم المتحدة، لتقف شاهدة على التاريخ ومطالبة بالإنصاف. اتخذت هذه المحكمة الخاصة من مدينة لاهاي الساحرة في هولندا مقرًا لها، لتبدأ فصلاً جديدًا في تاريخ العدالة الدولية.

التأسيس والولاية القضائية: إطار قانوني لملاحقة الجرائم

تأسست المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة بموجب القرار رقم 827 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الخامس والعشرين من مايو عام 1993، في خطوة تاريخية تعكس تصميم المجتمع الدولي على عدم غض الطرف عن الجرائم الشنيعة. مُنحت المحكمة ولاية قضائية شاملة لتشمل أربع مجموعات رئيسية من الجرائم التي ارتكبت على أراضي يوغوسلافيا السابقة منذ عام 1991. شملت هذه الجرائم الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف، والتي تعتبر حجر الزاوية في القانون الإنساني الدولي، بالإضافة إلى انتهاكات قوانين وأعراف الحرب، والتي تحدد السلوك المقبول وغير المقبول في النزاعات المسلحة. كما كان من اختصاصها النظر في قضايا الإبادة الجماعية، وهي جريمة الجرائم التي تهدف إلى تدمير جماعات بشرية بأكملها، والجرائم ضد الإنسانية، التي تشمل أفعالاً وحشية واسعة النطاق ومنهجية ضد أي مجموعة من السكان المدنيين. وكانت أقصى عقوبة يمكن أن تفرضها المحكمة هي السجن المؤبد، وقد أبرمت دول مختلفة اتفاقيات مع الأمم المتحدة لتنفيذ هذه الأحكام الصارمة، مؤكدة على التعاون الدولي في سبيل تحقيق العدالة.

مسيرة المحكمة والختام: إرث من العدالة والمحاسبة

على مدار سنوات عملها، وجهت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة الاتهام إلى ما مجموعه 161 شخصًا، من جنود وسياسيين وقادة، في محاولة لكشف الحقيقة وتقديم المسؤولين إلى العدالة. صدرت لوائح الاتهام النهائية في ديسمبر 2004، وتم تأكيد وكشف الختم عن آخرها في ربيع عام 2005، مما يمثل ذروة نشاط المحكمة في تحديد الملاحقات القضائية. وقد استمرت جهود المحكمة في ملاحقة الفارين، حتى تم اعتقال آخر هارب، غوران هادجيتش، في 20 يوليو 2011، ليضع حدًا لسنوات من المطاردة. صدر الحكم النهائي عن المحكمة في 29 نوفمبر 2017، لتختتم بذلك فصلاً طويلًا ومضنيًا من العمل القضائي. ومع حلول 31 ديسمبر 2017، توقفت المحكمة رسميًا عن الوجود، لكن مهامها لم تتوقف بالكامل؛ فلقد انتقلت الوظائف المتبقية، بما في ذلك الإشراف على تنفيذ الأحكام والنظر في أي إجراءات استئناف بدأت منذ 1 يوليو 2013، إلى ولاية الهيئة الخلف، وهي الآلية الدولية لتصريف الأعمال المتبقية للمحكمتين الجنائيتين (IRMCT)، التي تواصل هذا الإرث القضائي المهم.

سلوبودان ميلوشيفيتش: من عرش السلطة إلى قفص الاتهام

لم يكن هذا الجهد القضائي بمعزل عن الشخصيات المحورية التي رسمت ملامح الصراع اليوغوسلافي؛ وفي طليعتهم كان السياسي اليوغوسلافي والصربي المثير للجدل، سلوبودان ميلوشيفيتش. وُلد ميلوشيفيتش في بوزاريفاتش عام 1941، ودرس القانون في كلية الحقوق بجامعة بلغراد، ليخطو أولى خطواته السياسية كطالب ضمن رابطة الشباب الاشتراكي اليوغوسلافي. خلال ستينيات القرن الماضي، شغل ميلوشيفيتش منصب مستشار لعمدة بلغراد برانكو بيتش، ثم تولى رئاسة إدارتي شركتي "تكنوغاز" و"بيوبانكا" الحكوميتين، وهي أدوار مكنته من بناء شبكة علاقات قوية وتجربة إدارية حتى ثمانينيات القرن الماضي.

الصعود إلى السلطة ودور ميلوشيفيتش في الحروب اليوغوسلافية

شهد عام 1987 صعود ميلوشيفيتش السريع إلى السلطة، مدفوعًا بموجة من الخطابات الشعبوية والقومية التي لاقت صدى لدى قطاعات واسعة من الصرب. دافع ميلوشيفيتش بحماس عن تقليص سلطة المقاطعات الصربية المتمتعة بالحكم الذاتي، وهي كوسوفو وفويفودينا، وزيادة المركزية لصالح بلغراد، مما أشعل فتيل التوترات العرقية. انتُخب رئيسًا لجمهورية صربيا الاشتراكية في عام 1989، وقاد "الثورة المناهضة للبيروقراطية"، ثم قام بإصلاح دستور صربيا، محولًا إياها إلى نظام متعدد الأحزاب مع تخفيض سلطة المقاطعات المستقلة بشكل كبير. بعد الانتخابات العامة لعام 1990، رسخ ميلوشيفيتش حكم الحزب المهيمن، محافظًا على سيطرة حزبه على الموارد الاقتصادية الرئيسية للدولة. ومع تفكك جمهوريات يوغوسلافيا وانفجار الحروب المدمرة، لعب ميلوشيفيتش دورًا محوريًا في هذه الصراعات، حيث شكلت صربيا والجبل الأسود "جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية". كما تفاوض على اتفاقية دايتون التاريخية نيابة عن صرب البوسنة، التي وضعت حدًا لحرب البوسنة في عام 1995. خلال فترة حكمه، شهدت البلاد العديد من الاحتجاجات المناهضة للحكومة والمناهضة للحرب، وتشير التقديرات إلى أن ما بين 50 ألفًا و200 ألف شخص انشقوا عن الجيش الشعبي اليوغوسلافي الذي كان يهيمن عليه ميلوشيفيتش، بينما هاجر ما بين 100 ألف و150 ألف صربي من صربيا، رافضين المشاركة في هذه الحروب المدمرة.

الاتهام والمحاكمة والوفاة: خاتمة مثيرة للجدل

في عام 1999، وأثناء قصف حلف شمال الأطلسي (الناتو) ليوغوسلافيا، وجهت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة لائحة اتهام إلى سلوبودان ميلوشيفيتش بارتكاب جرائم حرب تتعلق بحرب البوسنة وحرب الاستقلال الكرواتية وحرب كوسوفو، ليصبح بذلك أول رئيس دولة يُتهم بارتكاب مثل هذه الجرائم. وصف المراقبون سلوكه السياسي بأنه شعبوي وانتقائي وانتهازي، يعكس تكيّفًا مع الظروف لتحقيق أهدافه. استقال ميلوشيفيتش من الرئاسة اليوغوسلافية في خضم مظاهرات عارمة أعقبت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها في 24 سبتمبر 2000. اعتقلت السلطات الفيدرالية اليوغوسلافية ميلوشيفيتش في 31 مارس 2001 بشبهة الفساد وإساءة استخدام السلطة والاختلاس. تعثر التحقيق الأولي في قضيته بسبب نقص الأدلة، مما دفع رئيس الوزراء زوران دجيندجيتش إلى تسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة لمحاكمته بتهمة ارتكاب جرائم حرب بدلًا من ذلك، في خطوة أثارت جدلاً واسعًا. في بداية محاكمته، شجب ميلوشيفيتش المحكمة واعتبرها غير قانونية بحجة أنها لم تُنشأ بموافقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، ورفض بالتالي تعيين محام للدفاع عنه. أجرى ميلوشيفيتش دفاعه عن نفسه في محاكمة استمرت خمس سنوات، لكنها انتهت دون حكم عندما توفي في زنزانته في لاهاي بتاريخ 11 مارس 2006. كان ميلوشيفيتش يعاني من أمراض في القلب وارتفاع في ضغط الدم، وتوفي بنوبة قلبية. نفت المحكمة أي مسؤولية عن وفاته، مشيرة إلى أنه رفض تناول الأدوية الموصوفة وفضل علاج نفسه بطرق أخرى.

إرث ميلوشيفيتش ومحكمة العدل الدولية

على الرغم من وفاته قبل صدور حكم من المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة، فإن إرث ميلوشيفيتش لا يزال محط جدل كبير. وقد خلصت محكمة العدل الدولية بشكل منفصل، في قضية الإبادة الجماعية في البوسنة، إلى عدم وجود دليل يربط ميلوشيفيتش بشكل مباشر بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الصربية البوسنية خلال حرب البوسنة. ومع ذلك، وجدت المحكمة أن ميلوشيفيتش وآخرين في صربيا انتهكوا اتفاقية الإبادة الجماعية لعدم منع وقوع الإبادة الجماعية، ومن خلال عدم التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة في معاقبة مرتكبيها، ولا سيما راتكو ملاديتش، وبانتهاك التزامها بالامتثال للتدابير التحفظية التي أمرت بها المحكمة. وُصف حكم ميلوشيفيتش بأنه استبدادي أو تسلطي، وكذلك كليبتوقراطي (حكم اللصوص)، وتخللته العديد من الاتهامات بالتزوير الانتخابي والاغتيالات السياسية وقمع حرية الصحافة ووحشية الشرطة، مما يرسم صورة قاتمة لفترة حكمه.

أسئلة متكررة حول المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة وسلوبودان ميلوشيفيتش

ما هي المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة (ICTY) ولماذا أنشئت؟

هي هيئة قضائية دولية تابعة للأمم المتحدة أنشئت عام 1993 لمحاكمة ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب، الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت خلال الحروب اليوغوسلافية في تسعينيات القرن الماضي، وذلك لضمان تحقيق العدالة للضحايا.

ما هي أنواع الجرائم التي اختصت المحكمة بمحاكمتها؟

اختصت المحكمة بالنظر في أربع فئات من الجرائم: الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف، انتهاكات قوانين أو أعراف الحرب، الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية.

متى توقفت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عن الوجود؟

صدر الحكم النهائي عنها في 29 نوفمبر 2017، وتوقفت المحكمة رسميًا عن الوجود في 31 ديسمبر 2017، حيث انتقلت مهامها المتبقية إلى الآلية الدولية لتصريف الأعمال المتبقية للمحكمتين الجنائيتين (IRMCT).

من هو سلوبودان ميلوشيفيتش؟

كان سلوبودان ميلوشيفيتش سياسيًا صربيًا ويوغوسلافيًا شغل منصب رئيس صربيا من 1989 إلى 1997 ورئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية من 1997 إلى 2000، وكان شخصية محورية في تفكك يوغوسلافيا والحروب التي تلت ذلك.

بماذا اتهمت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة سلوبودان ميلوشيفيتش؟

اتهمته المحكمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية فيما يتعلق بحرب البوسنة وحرب الاستقلال الكرواتية وحرب كوسوفو، ليصبح أول رئيس دولة يُتهم بمثل هذه الجرائم.

كيف انتهت محاكمة سلوبودان ميلوشيفيتش؟

انتهت محاكمته دون صدور حكم نهائي، حيث توفي في زنزانته في لاهاي بنوبة قلبية بتاريخ 11 مارس 2006، قبل اكتمال الإجراءات القضائية.

هل أدانته أي محكمة دولية بجريمة الإبادة الجماعية بشكل مباشر؟

لا، لم تجد محكمة العدل الدولية دليلًا مباشرًا يربطه بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها القوات الصربية البوسنية. ومع ذلك، وجدت المحكمة أن صربيا (تحت قيادته) انتهكت اتفاقية الإبادة الجماعية لفشلها في منع وقوعها وعدم تعاونها مع المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة.